د.إيمان يسرى

أركان الإنسان (الإنسان خماسي الأبعاد)

الجمعة، 08 مارس 2024 01:15 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مما لا شك فيه أنه يمر على الإنسان فترات تجعله يتفكر في خلقه وفي حاله سواء على المستوى الجسدي أو النفسي. وغالبا ما تكون هذه الفترات فترات مرض أو وفاة عزيز أو موقف صعب يجعل الإنسان يشعر بمدى ضعفه وقلة حيلته مهما كان قوي البنية والسمعة، مما يجعله يتفكر في خلق الله له ويتذكر الهدف الرئيس من خلقه، ألا وهو عبادة الله عز وجل.

قال كثير من العلماء أن الإنسان مخلوق رباعي الأبعاد؛ يتكون من جسد وقلب وعقل وروح (أو نفس). ولكن قام بعض العلماء بتوضيح الفرق الدقيق بين الروح والنفس وعلى رأسهم دكتور مصطفى محمود-رحمه الله- ومع ذلك التصور الدقيق للروح والنفس الموثق بأدلة من القرآن الكريم، أيقن العلماء أن الإنسان مخلوق خماسي الأبعاد يتكون من جسد وقلب وعقل ونفس وروح؛ فهيا بنا صديقي القارئ نجوب في جولة سريعة داخل هذا المخلوق الخماسي الأبعاد.

كما نعلم جميعا أن الله عز وجل خلق الإنسان من طين، وشكّل الله عز وجل هذا الطين على هيئة الجسد ووهبه القلب والعقل والنفس ثم نفخ الله عز وجل في هذا الجسد من روحه، ليهب الإنسان الحياة، وقال الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة الحجر الآية 29 (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).

الجسد هو الوعاء المادي الذي يدل على وجود الإنسان في العالم الواقعي المادي. الجسد هو الذي يحمل الأعضاء الجسدية للإنسان، الجسد هو الدم واللحم والعظم والماء وغيرها من المكونات التي يتكون من جسد الإنسان. ومرآة الجسد هي الصحة، حيث أثناء حياة الإنسان تنعكس صحة الإنسان على جسده والعكس بالعكس، أي أن هذا الجسد يحتاج لعناية من الناحية الصحية والحفاظ على سلامة مكونات الجسد من الأعضاء الداخلية والخارجية وأيضا الاهتمام بالنظافة الشخصية التي إذا أهملها الإنسان ستؤثر سلبا على صحة جسده.

القلب هو وعاء المشاعر بجميع تناقضاتها، أي أنه يدل على الجانب العاطفي في الإنسان. القلب الذي يضخ الدم بالجسد هو عضو من أعضاء الجسد، وهذا ليس المقصود بالقلب في هذا الجانب، أنما المقصود بالقلب هو منبع البصيرة، منبع شعور الإنسان وبصيرته وإحساسه بمن حوله وبما يحدث في ذاته كانعكاس للمواقف والأحداث من حوله على ذاته ومشاعره، وهذا الانعكاس متغير ومتناقض طوال الوقت بداية من حياة الإنسان حتى مماته، مثل الشعور بالحزن والفرح، والرضا والسخط، والحب والكره، والغضب والسكينة وغيرها من المشاعر المتناقضة دائما طبقا للمواقف والاختبارات المختلفة التي يمر بها الإنسان في حياته. ومرآة القلب هي العبادة، حيث أن العبادات التي فرضها الله عز وجل على الإنسان هي التي تزهر القلب وترحمه من تقلبه المستمر. لأن عندنا يتعرض القلب لكثير من المشاعر المتناقضة طوال الوقت يصبح في حالة هشة ويفقد شعوره بالأمان ويفقد رغبته بالاستمرار، لذلك من نعم الله علينا أنه رزقنا بالعبادات المختلفة في كل الديانات السماوية، وهذه العبادات تحي القلب وتجدده وتزيد من طمأنته وتذكره بالله الواحد الأحد.

العقل هو وعاء الوعي والإدراك والمنطق، الناتج عن العلم والتفكر. وليس المقصود بالعقل عضو المخ الذي يوجد داخل جمجمة كل كائن حي لأنه يعد جزء من الجسد وعضو من أعضاءه. ولكن المقصود بالعقل، العقل الذي ميز به بني أدم (الإنسان) عن غيره من المخلوقات، العقل الذي يميز بين الخطأ والصواب والحلال والحرام، العقل الذي يتفكر ويتدبر ويتعلم وينمو ليطور الحياة ويعمرها ويبنيها كما أمر الله عز وجل. ومرآة العقل هي التعلم، حيث أمر الله الإنسان بالتعلم مادام على قيد الحياة. وبالطبع ليس المقصود من التعلم الذهاب للدراسة طوال الحياة -وإن كان يعد ذلك من ضمن الوسائل المتاحة للإنسان في هذا العصر المتقدم- ولكن أيضا يقصد بالتعلم التفكر والتدبر في خلق الله في السماء والأرض والكائنات، تعلم الحكمة من خلق الله وإدراك الحق ونبذ الباطل. ولكن احذر صديقي القارئ، لأنه إذا أطلقت العنان لجانب العقل ليسود ويتفكر في ذات الله الإلهية، فربما يضيع منك جانب العقل بلا عودة لأن هذا مستوى يفوق القدرة الإدراكية للعقل البشري الذي منحه الله لبني آدم.

النفس هي وعاء الشهوات والرغبات، أي أنها الجانب الحسي في الإنسان، الجانب الذي يشعر بالجوع والعطش، والذل والعزة، والنجاح والفشل. النفس هي التي توجه الإنسان لفعل الشر أو الخير، كما قال الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة يوسف الآية 53 ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. ومرآة النفس هي صلاح حاله وشأنه بشكل عام، حيث إذا صلح حال الإنسان يكون ذلك من صلاح نفسه وإذا فسد حال الإنسان يكون ذلك من فساد نفسه، فالنفس مرآة لجوانب الجسد والقلب والعقل معا، حيث أن النفس تستعين بباقي الجوانب لتنفذ رغبتها وترضي شهوتها، فلا نفس بلا جسد. فعلى سبيل المثال: إذا أمرت النفس الإنسان أن يفعل معصية ما، فأنها تستخدم باقي جوانب الإنسان (الجسد والقلب والعقل) لتقوم بالمعصية، فتقوم النفس باستخدام الجسد من خلال الحواس الخمس للإنسان (الشم والبصر والسمع والتذوق واللمس) لإدراك هذه المعصية وتزيد من رغبة الإنسان في فعل المعصية، ثم تستعين بباقي أعضاء الجسد لتنفيذ المعصية. وتستعين النفس بجانب القلب لزيادة الحس العاطفي للإنسان وتحريضه على المعصية بغرض احتياجها. كما تستعين النفس بجانب العقل الذي يتفكر ويتدبر في كيفية تنفيذ وارتكاب المعصية واختفاء أدلة ارتكابها.  

الروح هي من عند الله، هي نفخه من روح الله في كل إنسان. قال الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة ق الآية 16 (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، حيث توجد نفخة من روح الله في روح كل إنسان حي. وعندما يموت الإنسان تموت النفس والقلب والعقل ويتحلل الجسد، أما الروح فتظل باقية في ملكوت الله حيث أنها تستمر في العيش في سعادة أو في عذاب في حياة البرزخ في القبر، ومنها إلى الحياة الأخرة في جنة الخلد أو في عذاب جنهم. وقال الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة أل عمران الآية 185 (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). الروح مرآتها الدين، والمقصود بالدين أي من الأديان السماوية، دائما تحن الروح إلى ربها وفطر الإنسان على العبودية لله الواحد الأحد، بمعنى أنه إذا لم يخلق الله عز وجل أي دين فسيخترع الإنسان لنفسه شيء ليعبده! وقد حدث ذلك بالفعل في العصور الجاهلية وعبادة الأصنام والمخلوقات مثل النار والشجر والبقر، إلخ. ومن رحمة الله بخلقه وعباده أنه خلق لهم الأديان السماوية ليرشدهم ويدلهم على ذاتهم وعلى سعادتهم في الدنيا والأخرة.

كل هذه الجوانب معا تشكل الإنسان، أي إنسان، مهما كان عرقه وثقافته ومستواه العلمي والاجتماعي. لذلك صديقي القارئ، كل إنسان حي يرغب في تحقيق الشعور بالسعادة وعيش حياة هنية، فيجب عليه أن يغذي كل هذه الجوانب معا بالتوازي لكي ينعم بحياة حقيقية. ولكن في واقع الأمر كثيرا ما تأخذنا الحياة بإيقاعها السريع المستمر لتوفير متطلبات الحياة الأساسية من مأكل ومشرب وملبس وعمل بالإضافة للطموح والرغبة في تحقيق الذات أو الوصول للثراء الفاحش والشهرة السريعة، تخيلا من الإنسان أنه بذلك سيصبح أكثر سعادة أو طمأنينة، ويهمل جانب أو أكثر من أركان تكوينه وإنسانيته. ويكون الإنسان حينها غير مدرك لطبيعة تكوينه من الأساس ويفقد نفسه وذاته بين متطلبات الحياة وسرعة المتغيرات.

ظهر مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي وتقريبا كافة القنوات الفضائية الشاب "مصطفى الزين" وهو بلوجر شهير مسلم عربي الأصل (لبناني عراقي) أشتهر بالتاتو الذي يملأ جسده بشكل قوي ويكاد يكون مزعج لدى البعض، وازدادت شهرته مؤخرا لإعلانه توبته من هذا التاتو وقرار بقاءه في مصر بعد رجوعه من ألمانيا وفقده لكل ثروته وزوجته وأولاده. هذا الشباب يحكي عن قصة حياته ويستخدمها لهداية الشباب الذين لا يجدوا أرواحهم من كثرة الغرق في المعاصي. لقد شاهدت هذا الشاب كثيرا وهو يتحدث عن ذاته (يمكنك صديقي القارئ أن تبحث عن أسمه وتشاهد لقاءاته) ويقول دائما أنه كان لديه كل شيء من مال وعمل مرموق وأسره وشهرة وكان يتفنن في فعل المعاصي ويرتكب ويدمن كل شيء كما يحلو له، ولكنه كان دائم الشعور بنقص شيء لا يفقهه. وبعد ذلك في لمح البصر فقد كل شيء يملكه، ومن هنا بدأ يشعر بروحه التي فقدها والتي لم تعد له إلا عندما تاب إلى الله عز وجل. وإذا طبقنا حالة مصطفى كمثال على أركان الإنسان الخمس، في تحليلي الشخصي كان مصطفى ينمي جميع جوانب إنسانيته إلا جانب الروح، وبالأحرى عمل بشدة على تنمية جانب النفس وجعلها هي المتحكمة في إنسانيته وفي باقي أركانه، مما خلق بداخله فجوة كبيرة، وظل جاهدا يبحث عما يملأها بفعل كل شيء يرغبه ويشتهيه، رغم أنها موجودة في أعماقه ولكنه لا يشعر بها، ألا وهي الروح. فالروح من الله، إذا أقترب الإنسان من خالقه، اقتربت منه روحه، وإذا بعد عن خالقه، هجرته روحه. فالجسد والقلب والعقل والنفس بلا روح مثلهم كمثل الروبوت، أو شكل إنسان مكتمل من الخارج لكنه مجوف من داخله.

صديقي القارئ، كل من سبق من تفسيرات لأركان الإنسان الخمسة نابع من تفسيري وتحليلي الشخصي وليس له أي علاقة بديانتك أو جنسيتك، وليس له علاقة بأي تفسيرات دينية أو نفسية، كما أني لست في موضع الحكم على أي إنسان، ففي النهاية كلنا بشر، ورب البشر غفور رحيم، يقبل عباده التائبين، ونحن على أعتاب الشهر الكريم الذي هو شهر التوبة والمغفرة والروحانيات المرتفعة. ولكن العبرة أن تتفكر في أركان الإنسان الخمسة، فمن يريد سعادة الدارين فلينمي روحه التي هي من عند الله. وتذكر جيدا أنه إذا ساد الجسد طغى، وإذا ساد القلب فسد، وإذا ساد العقل جن، وإذا سادت النفس ضلت، وأما إذا سادت الروح فارتقت وحلقت وأدركت وأيقنت ووصلت إلى المبتغى، فاجعل روحك دائما مع الله جل في علاه كي تنعم بمعيته.

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة