د.إيمان يسرى

لا حياة بدون شغف (رحلتي مع بصمة الصوت)

الخميس، 25 يناير 2024 09:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
في مثل هذا الوقت من بداية كل عام، وبين امتحانات الفصل الدراسي الأول وإجازة نصف العام الدراسي وبداية الفصل الثاني من العام الدراسي، تغمرني الذكريات التي مر عليها 15 عام، وأنا في عامي الأخير من دراستي الجامعية في قسم الصوتيات واللسانيات- كلية الآداب- جامعة الإسكندرية، وكانت ضمن المواد الدراسية المقررة مادة "مشروع التخرج"، وكانت من المواد المضمونة، التي يسهل فيها على الطالب أن يحرز تقدير عالي يساعده على رفع تقديره العام في نهاية الدراسة، حيث يمكن لكل طالب أن يختار موضوع المشروع الذي يعمل عليه ومجموعة العمل من زملائه الطلاب والدكتور الجامعي الذي يقوم بالإشراف على المشروع. وبالرغم من أن مادة مشروع التخرج كانت في الترم الأخير من العام الجامعي الأخير مثل جميع التخصصات العملية، إلا أن جميع الطلاب كانوا يستعدون لهذه المادة منذ بداية العام الدراسي الأخير وربما من العام الدراسي الذي يسبقه. ولكن في حالتي كان الأمر مختلفا، لقد كنت متأخرة كثيرا عن باقي زملائي الذين كانوا يجتمعون في مجموعات صغيرة لمناقشة الموضوعات المختلفة المطروحة كمشروع للتخرج. أما بالنسبة لي، فكنت أسعى أن يكون مشروع التخرج مرتبط بحياتي العملية بعد التخرج، لذلك ظللت لفترة كبيرة حائرة بين عدة تخصصات، أحبها جميعها ولكن لا أجد نفسي في أي منها بعد التخرج!!
فدعوت الله كثيرا حتى يلهمني صوابي ويرشدني إلى مجال أحبه ويحبني، ومع بداية الترم الثاني من الفصل الدراسي الأخير، سمعت في إحدى المحاضرات عن تخصص الصوتيات التجريبية الجنائية، وظل المصطلح عالق في ذهني، وذهبت إلى المكتبة وبحثت عنه ومنه إلى محركات البحث الإلكترونية، وفجأة لمعت فكرة مشروع التخرج في ذهني، وذهبت مسرعة لزملائي، أشرح لهم الفكرة رغبة في أن يكون للمشروع فريق عمل مكون من 3 طلاب على الأقل كعادة مشروعات التخرج، ولكن كانت جميع الدفعة تقريبا قد تجمعت في مجموعات وبالفعل بدأوا في العمل على مشروعاتهم، وبقيت بمفردي مع فكرة عالقة في ذهني لا تنفصل عني، وبعدها قررت الذهاب لمدرس المادة وشرحت موقفي وعبرت عن رغبتي في التعمق البحثي حول هذه الفكرة كمشروع تخرج، ولكن لا يوجد مجموعة عمل، وتفاجأت وتحمست عندما كُسرت القاعدة وتمت الموافقة على موضوع مشروع التخرج وأني سأعمل عليه بمفردي دون فريق عمل. ومن هنا بدأت رحلتي البحثية في مجال الصوتيات الجنائية وبصمة الصوت، رحلة لم تكن باليسيرة ولكن أحبها وأعتز وأفخر بها.  
طوال حياتي وأنا أحب الموسيقى العربية وكان والدي -رحمة الله عليه- عاشق لعبد الحليم وأم كلثوم، فقد تربيت وكبرت وحزنت وفرحت وعشقت على أصواتهم وأغنياتهم، وعندما كنت أستمع لعبد الحليم وأم كلثوم في لقاءات إذاعية حوارية، كنت استغرب أصواتهم نوعا ما وأعتقد أن أصواتهم مختلفة أثناء الكلام عن أصواتهم أثناء الغناء. وخلال دراستي الجامعية كان ضمن المواد الدراسية مادة علم الجمال الصوتي، ومادة الصوتيات التجريبية وغيرها من المواد الدراسية المتعلقة بالصوت، وكنت حينها أحب الذهاب إلى الأوبرا وأحضر حفلات الموسيقى العربية، واستمرت عدة تساؤلات عالقة في ذهني وأبحث لها عن تفسير علمي؛ فكيف لشخص أن يكون صوته في الغناء أجمل من صوته في الكلام؟ أو كيف لشخص أن يكون لديه جميع المقومات الدراسية اللازمة للغناء بشكل محترف ولكن ليس لديه صوت جميل؟ وأيضا كيف لشخص جميل الصوت أثناء التحدث وعندما يغني يسد الناس آذنهم من شدة سوء الصوت؟
علم الصوتيات الجنائي هو علم مشتق من علم الصوتيات العام، ويختص علم الصوتيات الجنائي بدراسة بصمة الصوت والتعرف على المتهم من خلال صوته في الجرائم المختلفة، ويدرس علم الصوتيات الجنائي العلاقة بين اللغة والقانون بشكل عام. بحيث تكون بصمة الصوت دليل إدانة أو براءة في الجرائم المختلفة التي تحدث في الظلام أو في حالة عدم المقدرة على رؤية وجه الجاني، ولكن يوجد له تسجيل صوتي، مثل جرائم القتل، الاغتصاب، السب والقذف، السطو المسلح على المنازل أو البنوك، وغيرها من جرائم الإرهاب المنظمة دوليا. وتعتمد نظرية البصمة الصوتية في أصولها على إيجاد الفروقات بين المتكلم والمتكلمين الأخرين أو إيجاد الميزات واللزمات بين المتكلم ونفسه في مواقف مختلفة. 
واشتملت تجربة مشروع تخرجي وقتها على 10 متكلمين للعامية المصرية، جميعهم من الشباب الذكور من طلبة الجامعة وأعمارهم تتراوح بين 18 و25 عام، وطلبت منهم قراءة جملة واحدة، لكي أتمكن من تسجيلها وتحليلها فيما بعد بواسطة المعدات اللازمة. وكانت الجملة "في يوم من الأيام كان الإنسان يعتمد على الصيد ويسكن الكهوف"، وتم اختيارها من إحدى كتب التنمية البشرية المصرية. 
وبعد تسجيل الأصوات قمت بإعدادها في قائمة صوتية مرتبة بشكل محدد (Voice Line-Up)، بحيث يستمع المستمعين إلى صوت واحد من هذه الأصوات ويسمى علميا الصوت المختار (Target Voice)، وبعدها يستمع لنفس الصوت داخل القائمة الصوتية التي بها 10 أصوات مختلفة ومن ضمنها الصوت المختار، وجميع المتكلمين ينطقون نفس الجملة السابق ذكرها. ويقوم المستمع باختيار رقم الصوت (S1, S2, ……..S10) الذي يراه من وجهة نظره هو الصوت المختار الذي سمعه منفردا في بداية التجربة. ومع تكرار التجربة لكل مستمع، كان يزداد دقة إدراك المستمع للصوت المختار، حيث كانت درجة دقة اختيار الصوت المختار من القائمة الصوتية في أول مرة استماع 69.8%، وفي المرة الثانية 79.2% وفي المرة الثالثة والأخيرة 88.6%، مع العلم أن جميع الأصوات في القائمة الصوتية هي أصوات غير معتادة أو غير معروفة بالنسبة للمستمعين، وأيضا جميع المستمعين ليسوا مدربين على مثل هذا النوع من التجارب مسبقا وليس لديهم أي خبرات أو مميزات استماعيه ويطلق عليهم علميا (Naïve Listener) 
وكانت نتائج هذا الاختبار الإدراكي مذهلة بالنسبة لي وأنا في بداية حياتي البحثية والعلمية، حيث كنت أقرأ في المراجع والأبحاث العالمية المختلفة عن ضرورة اعتماد البصمة الصوتية في الجرائم المختلفة لأنها تضاهي في دقتها بصمة الإصبع وبصمة الحمض النووي، ولكن زاد يقيني بهذا العلم عندما أثبتها بالتجربة العملية بنفسي وعلى لغتي الأم (اللغة العربية)، حيث كانت جميع الدراسات السابقة تطبق على اللغات الأجنبية. وازداد شغفي بهذا العلم عندما تمكنت من التحليل الفيزيائي للصوت وأصبحت أرى الموجات الصوتية وتحليلاتها الطيفية، التي تمكنني من قياس شدة كل صوت ينطقه المتكلم. وبين التحليل الفيزيائي لصوت المتكلم والاختبار الإدراكي لأذن المستمع، خرجت بنتائج بحثية وعملية رائعة وتمكنت من إيجاد الفروقات بين المتكلمين وبعضهم (في القائمة الصوتية)، وأيضا إيجاد الميزات في المتكلم ونفسه (الصوت المختار). 
لذلك في شهر يناير من كل عام أتذكر رحلتي في البصمة الصوتية وأزيد على خبرتي في هذا المجال الشيق والمتميز سنة إضافية، كما يزداد شعوري بالامتنان لهذه التجربة العملية الأولى ولأساتذتي بقسم الصوتيات واللسانيات لإتاحة هذه الفرصة لي والموافقة على فكرة مشروع التخرج منذ البداية وتشجيعي على العمل عليه بمفردي، حتى أصبحت المتخصصة الأولى في الوطن العربي في علوم الصوتيات الجنائية وبصمة الصوت. وفي هذا العام تحديدا تتزامن هذه الذكريات الجميلة مع نزول أول كتاب لي في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 55، كتاب "بصمة الصوت ودورها في الكشف عن الجريمة"، أول كتاب مصري باللغة العربية متخصص في البصمة الصوتية وعلم الجريمة وصادر عن مؤسسة حورس الدولية للنشر والتوزيع.  
 
صديقي القارئ، أتمنى أن تكون قد استمتعت معي برحلتي في بصمة الصوت وأتمنى أن يكون لديك رحلة خاصة بك، رحلة متميزة وشيقة في مجال عملك أو دراستك أو هوايتك، وأتمنى لك أن تكون شغوف بتلك الرحلة لدرجة تجعلها هي ملاذك الأخير للتمسك بالحياة والنهوض من جديد في أشد الأيام قسوة. صديقي القارئ، إذا لم يكن لديك سبب للنهوض من جديد ذات يوم، فربما عليك مراجعة تفاصيل حياتك وإعادة ترتيب أهدافك وأولوياتك في الحياة من جديد.
 
 
الكلمات المفتاحية:
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة