محمود نسيم بعيدا عن إيقاعات النشاز.. "اليوم السابع" يقرأ رحلة الشاعر الراحل.. شعبان يوسف يرصد شذرات من الخطوات الأولى.. ويتذكر لقاءات فارقة من أسامة الخولى إلى صلاح عبد الصبور وجيل السبعينيات

الأربعاء، 28 أبريل 2021 04:10 م
محمود نسيم بعيدا عن إيقاعات النشاز.. "اليوم السابع" يقرأ رحلة الشاعر الراحل.. شعبان يوسف يرصد شذرات من الخطوات الأولى.. ويتذكر لقاءات فارقة من أسامة الخولى إلى صلاح عبد الصبور وجيل السبعينيات
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ننشر مقالة للشاعر والناقد شعبان يوسف عن الدكتور محمود نسيم، الذى رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة، وبالتحديد 21 أبريل الجارى، يستعرض فيها بداية رحلة محمود نسيم الشعرية والنقدية، ويتوقف عند عدد من المحطات المهمة فى تاريخهما معا ولقائهما بعدد من كبار الشعراء والنقاد فى بداية حياتهما. 

مقدمة لا بد منها:

عندما أعلن جيل السبعينيات عن وجوده وتجلياته، لم يأت ذلك وفق صفارة إنذار انطلقت من مكان ما خاص أو مؤسسى تحميه القوانين واللوائح وصمامات الأمان، ولم تترتب تجلياته على إيقاعات أيديولوجية موحدة وصارمة أو غير صارمة، ولكن الأمر كان يتكون رويدا رويدا عبر ردود أفعال مختلفة ومتنوعة وربما متناقضة، أستطيع أن أحذف التيارات المتطرفة دينيا وقلبى مطمئن، وضميرى مستريح، لأن تلك التيارات التى راحت تغزو الجامعات والمدارس والأحياء الشعبية، هى التى انطلقت وتوحشت وفق صفارة إنذار شارك فى نفخها وعزف نغماتها الغريبة، ذلك التحالف السياسى الشرس الذى نشأ بين الدولة وجماعة الأخوان المسلمين، وذلك لضرب التيارات الفكرية والسياسية والأدبية المتمردة على نهج السياسات الرسمية، وأنا أتحدث هنا كشاهد عيان رأى وعاش كل الأحداث رؤيا العين، ولم يكتف بقراءة الأخبار والتعرف على الأحداث من كتب المؤرخين، وتحليلات الساسة، وسوف نتعرض لذلك لاحقا.

محمود نسيم
 
عدا تلك التيارات المتطرفة، وعودة مجلة "الدعوة" فى عام 1976، وانتشار الجلاليب البيضاء القصيرة، تنفسّت قوى سياسية وثقافية أخرى، وكانت تلك التيارات فاعلة بشكل واضح وملحوظ وكثيف، خاصة فى الجامعات والمعاهد الدراسية، وعبّرت تلك التيارات عن نفسها فى تنظيمات سياسية تارة، وفى نشرات|مجلات ماستر تارة أخرى، أو فى تجمعات ثقافية مستقلة أو مؤسسية تارة ثالثة، ومن تلك العناصر والفعاليات المختلفة، برزت أسماء شعرية وقصصية وروائية ومسرحية وتشكيلية وسينمائية قوية، وذات حضور نخبوى محدود أو جماهيرى واسع، وكانت كل تلك الأسماء والأصوات تتحرك على أوتار سياسية مختلفة، منها الحاد، ومنها الناعم، ومنها الهادئ والمحايد، ومنها الذى لا يريد أن يتورط فى معتركات واشتباكات سياسية واضحة وغير مأمونة الجانب.
 
ولا نستطيع أن نقرأ خارطة السبعينيات السياسية والفكرية والثقافية، دون الرجوع للخلف قليلا، أى مرحلة ما بعد 1967، حيث الحراك العمالى والطلابى والثقافى والجماهيرى المتمرد، ذلك الذى بدأ منذ خروج الجماهير إلى الشارع فى 9و10 يونيو، لمطالبة جمال عبد الناصر بالتراجع عن قرار التنحى، وتحمله مسئولية الهزيمة، والإصرار على مواجهة الكيان الصهيونى بالحرب والكفاح المسلح.
 
فى تلك الفترة بدأت قيادات سياسية وثقافية وفكرية تستعيد لياقتها بشكل واسع وجاد، وتوزعت القيادات بين اليسار الرسمى الذى اندمج مع السلطة السياسية منذ الخروج من المعتقلات عام 1964، وأرسلوا برقية تأييد لجمال عبد الناصر، وفى هذا الصدد نشرت مجلة الطليعة خبرا مطولا فى مايو 1965 تحت عنوان "الشيوعيون المصريون ينهون تنظيماتهم المستقلة"، وجاء فى مستلهه: "أعلن الشيوعيون المصريون حل تنظيميهما (الحزب الشيوعى المصرى والحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى_حدتو)، والتقدم  - كأفراد - بطلبات العضوية إلى الاتحاد الاشتراكى العربى، باعتباره التنظيم السياسى الثورى الوحيد لتحالف قوى الشعب العاملة بقيادة المناضل جمال عبد الناصر.."، وكان قد صدر بيان فى أبريل 1965 أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى المصرى قرارا إجماعيا بإنهاء الشكل المستقل للحزب الشيوعى المصرى، وتكليف كافة أعضائه بالتقدم  - كأفراد - لطلب عضوية الاتحاد الاشتراكى العربى، من أجل تكوين حزب اشتراكى واحد يضم كل القوى الثورية فى بلادنا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
 
صورة أخرى فى المرحلة الثانوية
 
ومن ثم انضمت القيادات الشيوعية العتيدة والتقليدية والمعروفة إلى مؤسسات الدولة الرسمية، بل حلّ بعض هؤلاء القادة كرؤساء لبعض تلك المؤسسات الكبرى، مما جعلهم يتماهون تماما مع خطة الدولة فى كافة القرارات السياسية، وبالطبع حدث هذا بعد تجربة معاناة طويلة وشاقة، ومحاولة جذب واستقطاب مسميتة لهؤلاء القادة بطريقة ما، وذلك لضمان عدم رفع أى شعارات تمرد أو احتجاج، وبالفعل تبنت تلك القيادات مقولات وأفكار وقرارات وثقافة وخطط الدولة، وظلت هناك خيوط رفيعة جدا لتسريب بعض الأفكار اليسارية عبر بعض المطبوعات الثقافية مثل مجلات الطليعة والكاتب وجريدة المساء التى كانت مساحة واسعة لأقلام وإبداعات وفنون اليسار، ومما لا شك فيه أن هذه القيادات اليسارية  - بشكل عام -  رعت كثيرا من المبدعين الشباب، ودعمت كثيرا منهم لنشر إبداعاتهم المتنوعة فى الشعر والقصة والمسرح والرواية، وكذلك كتبوا عنهم وأبرزوا كثيرا من تلك الإبداعات، وهناك نماذج كثيرة ناصعة ولافتة، ويكفى أن نذكر ذلك الملف الذى أعدته مجلة الطليعة فى سبتمبر 1969 تحت عنوان كبير: "هكذا يتكلم الأدباء الشباب".
 
تطورت علاقة اليسار الرسمى بالسلطة إلى الحلول فى ما أطلق عليه "التنظيم الطليعى"، ذلك التنظيم الذى كان يدير كافة أنشطة الشباب السياسية والثقافية والفكرية، وهناك أدلة كثيرة على ذلك التعاون، وعندما حدثت الهزيمة، ثم أعقبها قرار تنحّى جمال عبد الناصر، كتب قادة يساريون كثيرون فى تأييد الدولة، ولاغبار بالطبع على ذلك فى مثل هذه الكوارث الوطنية الكبرى، وتم تفسير خروج الجماهير تفسيرا يجنح إلى رغبة الجماهير فى المساندة بل المشاركة  الوطنية الواجبة واللازمة، وهناك كتاب يكاد يكون مجهولا للروائى والدكتور شريف حتاتة أحد قيادات الحركة الشيوعية قديما، وكذلك أحد الضالعين فى قيادات الاتحاد الاشتراكى العربى آنذاك، عنوان الكتاب "عندما يتحرك الشعب"، صدر فى أعقاب خروج الجماهير فى 9و10 يونيو، يقول حتاتة : "..لقد بدأ التحرك إذن من القاعدة بشكل تلقائى، وعندما أحسّت القاعدة أنها تستطيع التحرك بحرية، انطلقت تكسر كل القيود، وأرغمت الجميع على السير معها، حتى وإن كان بعضهم غير مقتنع بجدوى هذا العمل.. نعم انطلقت الجماهير تكسر القيود ماعدا قيود الوعى والنظام والإحساس بمصلحة الوطن، فرغم الظلام الدامس، وعجز قوات الأمن عن السيطرة على الموقف، وغليان المشاعر الذى صاحب الأحداث السريعة المتتالية التى فجعت الأمة كلها، لم تسجل سرقة واحدة، أو حادثة تخريب أو اعتداء بالقول أو بالفعل.."، ويردف بعد تفسيرات عديدة لذلك الخروج بقوله: "..ولكن مغزى ليلة 9 يونيو لا يتوقف عند هذا الحد، إننا نرى فيها التعبير عن الثقة فى القائد جمال عبد الناصر رغم النكسة التى اعترف بشجاعة أنه يتحمل مسئوليتها..".
 
تحليل دكتور شريف حتاتة، هو ماكانت قيادات كثيرة وفاعلة من اليسار الرسمى تتبناه وتدعو له، وتكتب دراسات ومقالات وبيانات مطولة فى تأويل ذلك التحليل، وتبعا لذلك نشطت كافة مقرات ومواقع الاتحاد الاشتراكى العربى فى القاهرة والمحافظات، وشهدنا نشاطات عارمة فى تلك المقرات، بداية من إنشاء فصول تقوية لتلاميذ المدارس مجانية، وعقد ندوات تثقيفية تتناول موضوعات سياسية واجتماعية كثيرة، وعقد أمسيات شعرية أسبوعية، وكان أشهر تلك الأمسيات تلك الندوة الخميسية التى كان يشرف عليها الشاعر سيد حجاب فى المقر الرئيسى للاتحاد الاشتراكى، وذلك فى النصف الأول من عقد السبعينات.
 
بعيدا عن القيادات اليسارية التقليدية، برزت قيادات شابة أخرى على هامش النشاط الرسمى، وتلبية للحراك الطلابى والعمالى الذى بدأ يصنع رقما ملحوظا فى الحركة الوطنية الديمقراطية الوليدة، وكانت الجامعة تعى دورها الطليعى الذى دفعت به الأحداث إلى الأمام، وبالتالى راحت القيادات الطلابية تستلهم نضالات قديمة فى عقدى الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضى، وبرزت فى ذلك المجال أسماء مجيدة، من بينها الطالب أحمد عبدالله رزة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وأحمد بهاء الدين شعبان وسهام صبرى من هندسة القاهرة، وبالطبع ظهرت أسماء وقيادات فيما بعد كثيرة، ولا تستطيع هذه السطور سرد كل القيادات التى شكّلت أطيافا وتيارات سياسية متعددة، ولكننا نستطيع أن نقول أن الشهر الأخير من عام 1969 شهد حدثا سياسيا كبيرا، وبالتحديد فى 8 ديسمبر من ذلك العام، اجتمع بعض هؤلاء الشباب، بقيادة الناقد والمفكر السياسى، والمناضل العتيد ابراهيم فتحى، وأعلن ذلك الجمع إنشاء منظمة تحت مسمى "التنظيم الشيوعى المصرى ..تشم"، وكانت هذه المنظمة التى تحول مسارها لكى تكون حزبا وهو "حزب العمال الشيوعى المصرى"، إحدى ثمرات الحركة الثورية الصامتة فى ذلك الوقت، وضم _هذا التنظيم_فى إهابه مجموعة كبيرة من الكتّاب والمناضلين والباحثين منهم مع الاحتفاظ بالألقاب خليل كلفت ومحمد السيد سعيد وسعيد العليمى وحسنين كشك وجلال الجميعى وأروى صالح وخالد الجويلى ورضوان الكاشف وسمير حسنى وصلاح العمروسى ومحمد سيف وغيرهم الكثير من العناصر التى قادت العمل الفكرى الجاد والسياسى والثقافى طوال عقد السبعينات، وتأسست بعد ذلك عدة منظمات سياسية أخرى كان لها قسط كبير فى قيادة العمل السياسى والثقافى، منها ما أطلق عليه "التيار الثورى"، وكان أحد قياداته الكبيرة على المستوى السياسى والثقافى والفكرى الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة، والذى كان يعقد ندوة فى منزله يوم الخميس من كل أسبوع.

من فصل أولى خامس إلى التنظيم السياسى:

 من دواعى صعوبة الكتابة عن الشاعر والمسرحى والأكاديمى والإنسان المفرط فى نبله محمود نسيم، أننا رفاق مسيرة طويلة بشكل شخصى وأدبى وثقافى وفكرى وسياسى وعائلى، وذلك منذ التقيت به فى مدرسة حلمية الزيتون الإعدادية، وهذا يجعل من كتابتى عنه نوعا من الشهادة أو السيرة المشتركة لصعوبة فصل مساراتنا خاصة فى مراحلها الأولى، وكنت قد هجست إلى نفسى بأنه - أى محمود نسيم -  سيكون قادرا على كتابة تاريخنا المشترك، ولكنه سبقنى إلى هناك، ووضع فى رقبتى أمانة سرد بعض الوقائع كما وقعت، حيث أن كثيرا من الأحداث التى مرّ بها نسيم، كنت الشاهد الوحيد عليها، بل المشارك أيضا فيها، حتى أن محمود كتب وقرأ شهادة له فى ورشة الزيتون عام 1992، ضمن برنامج كنت قد وضعته لشعراء السبعينات، لكى يلقوا شهاداتهم وتجاربهم فى الحياة والثقافة والشعر، وشارك شعراء من الجيل فى هذه الندوات منهم الشعراء حسن طلب ووليد منير ورفعت سلام وجمال القصاص وحلمى سالم وماجد يوسف وأحمد طه وأمجد ريان وغيرهم، وألقوا بشهاداتهم وافية وشاملة ومثيرة كذلك، وأحدثت الندوات وقتها جدلا ومناقشات واسعة، وبعد ذلك جمعتها فى كتاب، وكتبت دراسة وافية_كما أعتقد، وصدر الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2001.

صورة فى المرحلة الثانوية
صورة فى المرحلة الثانوية

شهادة محمود نسيم فى الكتاب سوف تسعفنى كثيرا على الاستفاضة فى الحديث عن بعض الأحداث التى سجلها نسيم بشكل مكثف أو مختصر أو لمجرد الإشارة، ولكنها كانت تخفى خلفها كثيرا من الأحداث والوقائع، وقد لجأ محمود إلى ذلك التكثيف، لأنه كان مقتنعا بأن الشهادة لا تحتمل أكثر من الإشارات التى تشى بالغرض من ذكر الواقعة التى يذكرها الشاهد، وعلى الآخرين البحث عن مصداقية وتفاصيل تلك الإشارات.

فى أعقاب هزيمة 1967، التقينا معا فى فصل أولى خامس من المدرسة الإعدادية المذكورة سلفا، كانت المدرسة تشبه إحدى الفيللات القديمة التى كان يملكها باشاوات النصف الأول من القرن العشرين فى العهد الملكى، وكان قصر الأمير يوسف كمال، وقصر الأمير محمد وحيد الدين سليم بالمطرية، الشهير بقصر الأميرة شويكار، يبعدان عن مدرستنا بضعة أمتار لا تتجاوز الخمسمائة متر، وكانت فصول المدرسة على غرار المنازل القديمة غير تقليدية، حيث كان فصلنا غرفة واسعة، ذات سقف عال، وله باب خلفى يطل على "فراندا" فارهة، كنا نطلّ منها على فناء المدرسة الواسع أو الحديقة المحيطة للمبنى بين الحصص، أو مستشفى خاص للأمراض العصبية كان يملكها رجل يهودى مصرى، وفيها ما لا يزيد عن خمسة نزلاء فقط من الرجال والنساء، كنا نتبادل معهم بعض الدعابات على هيئة إشارات مضحكة.
 
فى الأسبوع الأول من الدراسة، تم التعارف التدريجى بين طلّاب الفصل ومدرسيهم، وكان كل مدرس يدخل الفصل، يسأل كل طالب عن اسمه، وكل مدرس كانت له أسئلة خاصة، فبعضهم كان يسأل عن مهنة الوالد، وآخر يسأل عن الهوايات، وثالث يسأل عن الطموحات لكل منا، ولفت نظرى ذلك التلميذ المميز عن كل تلاميذ الفصل، شديد الأدب بشكل مفرط، على غير كثير من تلاميذ الفصل الذين ينتمون إلى أحياء شديدة الشعبية، وكانت حقيبة ذلك التلميذ كاملة بدرجة غير معتادة، الكراريس والأقلام والممحاة و"البرّاية"، بالإضافة إلى إجاباته المميزة والصارمة، رغم الرقة التى كان يلقى بها إجاباته، ذلك التلميذ كان محمود نسيم السيد الجوهرى، والذى جذبنى إليه أنه أجاب أحد الأساتذة بأنه يهوى القراءة، ويطمح فى المستقبل أن يكون شاعرا، وهذه الإجابة هى التى دعتنى للتعرّف عليه، لأننى كنت كذلك أهوى قراءة الشعر والقصص، ولكن أبهرنى ذلك الطموح لكى يكون شاعرا، بعيدا عن كل الإجابات الأخرى التى كانت تتراوح بين الطبيب والمهندس والضابط والطيّار والوزير وهكذا.
 
لم يقتصر تعارفنا على الفصل المدرسى، ولكننا تجاوزنا ذلك إلى الزيارات المنزلية، والتعرّف على عائلته، كان والده الطيب والعظيم السيد الجوهرى أستاذ اللغة العربية الرصين والمثقف "1900_1975"، والذى أصبح فيما بعد مديرا لعدد غير محدود من المدارس، كان يجلس معنا فى غرفة الصالون، ويراجع معنا بعض دروس العربى، وكان عاشقا لأمير الشعراء، ولأول مرة كنت أنصت له وهو يعلمنا إيقاعات الشعر، وذلك بواسطة قصيدة أحمد شوقى التى تبدأ بـ:
"سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يادمشق".
 
يكتب محمود عن والده قائلا: "كان السيد الجوهرى قد تخرّج من مدرسة المعلمين بطنطا، أوائل العشرينات، واشتغل مدرسا لفترة وجيزة ناظرا للمدارس الإلزامية التى أنشأتها الحكومة الوفدية الأولى برئاسة سعد زغلول عقب ثورة 1919، تجوّل أبى فى الدلتا يدير مدارسها وأحيانا ينشؤها، وفيما بعد، وحين كنت أسافر فى لجان التحكيم الخاصة بمسرح الثقافة الجماهيرية، كنت أجد بعض كبار السن يتذكرونه، ويصرّون على استضافتى محبة للناظر القديم وتحية لسيرته، كانت علاقتى بأبى من ناحية الفارق الزمنى، أشبه بعلاقة الحفيد لا الابن، فأنا أصغر أبنائه الثمانية الأحياء، والخمسة الموتى، ولعلى قد ولدت متأخرا قليلا، فقد أنجبنى وهو فى الخامسة والخمسين، أكثر ما أعطانى أبى هو الحرية، ربما كان يستشعر أنه لن يعيش كثيرا معى فأراد أن يعلمنى كيف أصوغ حياتى بدونه مفردا، لم يكن يتدخل تلك التدخلات الأبوية المعروفة، وإن أقلقه كثيرا تركى للصلاة، وحتى فى تلك رغم حساسيتها الدينية، لم يكن يقسو، حاول مراجعتى مناقشا، فاجأته أسئلتى المتمردة، فماذا فعل؟، راجع آيات القرآن والأحاديث، وقرأ التفسير والشرح، فتلك مراجعه فى النهاية، ليأتى بحجج تسانده، كنت أراه جالسا وحده متأملا ثم ينادينى ليرد على سؤال أو فكرة، تلك السماحة العقلية، رغم الأبوة وفارق الأيام والتجارب، جعلتنى ابنا خارج الوصاية، وهيأتنى للتحرر النفسى من هيمنة الوراثة وعوالم الأسلاف".
 
الديوان الأول
 
هذا وصف دقيق للغاية لذلك الأب النموذجى، وقراءة عادلة قبل أن تكون منحازة لرجل استطاع أن يزرع مجموعة من القيم والأخلاق والثقافة واحترام الذات، وذلك كواحد من الذين عاشوا ثورة 1919 بكل عرامتها، وكان مهتما بالأحداث السياسية حتى رحيله عام 1975، وكان طامحا بالطبع فى أن يكون محمود الابن ملتزما بما قرره الدين من صوم وصلاة وخلافه من الفروض الدينية، ولكنه ترك ابنه يختار حياته بالطريقة التى يريدها، ربما كانت الأم ذات الشخصية القوية والاسم المميز "غصون الورد عبدالله"، والتى أنجبت ابنها بعد أن اقتربت مما يسمونه "سنّ اليأس"، فهى من مواليد 1907، وأنجبت نجلها فى 3 مارس 1955، أى كان عمرها ثمانية وأربعين عاما، وكانت تحنو بشكل مفرط على محمود، وفى الوقت نفسه لا تكف عن تذكيره دائما بما فرضه الله على الناس، وتتلو أمامه كثيرا من قصار السور، وتستشهد بآيات من القرآن الكريم فى بعض المواقف، والتى كانت تحفظ كثيرا منه، ولأن الصبى اليافع كان آخر العنقود، والولد شبه الوحيد فى أسرة كبيرة، وأقول "شبه الوحيد"، حيث كان لمحمود شقيقه الكبير محمد، والذى كان مشغولا بحياته الخاصة، وكذلك كان يشغل رتبة عسكرية رفيعة المستوى فى القوات المسلحة المصرية، ولذلك علاقته بعائلته - الأشقاء والوالدين -  كانت غير منتظمة، ولذلك كان الاهتمام بمحمود كبيرا ومفعما بحنان مفرط.
 
ورغم ذلك الإلحاح المعلن والخفى من الوالدين على الالتزام الدينى، إلا أن الابن لم يلتزم كما كان يراد له، ولكننا تعرضنا لتجربة شديدة الأهمية فى مطلع السبعينات، كان لنا صديق فى المدرسة هو أحمد السيد، الذى صار طبيبا مرموقا فيما بعد، وكنا ثلاثتنا ندير حوارات طويلة حول مقالات هيكل "بصراحة"، أتذكر أن "محمود" كان أسرعنا فى قراءة مقال "هيكل" الأسبوعى، ويثير نقاطا مهمة للمناقشة، ويستمر بيننا الحوار لعدة ساعات كنا نقطعها جيئة وذهابا فى ضواحينا الشعبية، ولا ينتهى الحوار، كان مفتونا فى ذلك الوقت بتلك المقالات الطويلة، وترامت حول تلك الفترة كثير من أسئلة سياسية وفكرية وثقافية وفلسفية، إذ كان لديه ذلك النزوع التساؤلى، وهذا نزوع لاحظه معظم من اقتربوا منه، فهو دوما كان قادرا على طرح السؤال الصحيح، والذى كان يؤدى بالطبع إلى الإجابة المقنعة، وليست بالضرورة القطعية أن تكون صحيحة، وحول كل ذلك كان الشعر عمودا ثابتا فى حياته، ذلك الشعر الذى كان يستوعب الأسئلة الوجودية التقليدية لدى فتى قرأ قدرا من روايات عالمية، ومجموعة روكامبول "واحد وعشرون رواية"، كذلك روايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز، بالإضافة إلى كتب والده التراثية، والتى قرأ منها ما تيسّر، مثل كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والعقد الفريد والأغانى للأصفهانى وغيرها من مكتبة والده التى كان يحتفظ بها فى السندرة العامرة بكل ما كان ممتعا وشيقا لنا فى ذلك الوقت.
 
على هامش البحث عن سبيل فى تلك المرحلة، كانت ظاهرة الشيخ عبد الحميد كشك قد تفشّت بشكل لا يستطيع أى منا الإفلات من تأثيرها، وكان جارنا وزميلنا فى المدرسة "محمد عبدالله العفيفى" رحمه الله، سليل أسرة عريقة فى الدرس الدينى، والده الشيخ عبد الله العفيفى كان يشغل وظيفة مرموقة فى ذلك المجال لا أتذكر مسماها، وكان عمه الشيخ طه العفيفى مؤلف عدد من الكتب الدينية، وخاله الكاتب الصحفى الكبير محمود المراغى، واقترح علينا – محمد -  الذهاب معه إلى مسجد الحياة الذى يقع فى شارع مصر والسودان بمنطقة دير الملاك، وذهبنا قانعين لكى نشاهد ونستمع لتلك الظاهرة التى هزّت مصر طولا وعرضا، وكانت عباراته ومقولاته  - أى الشيخ كشك - الساخرة تتردد على ألسنة كثيرة، والتى كانت تتناول أم كلثوم وكثيرا من الفنانين بالتندر والتهكم، وكانت كل خطبه قادرة على أن تخلب عقول كل من يستمع إليه.
 
الديوان الأخير
الديوان الأخير
اكتشفنا بعد ذهابنا مرة وأخرى، أن جمهور الشيخ كشك كان حريصا على تسجيل خطبه، ولذلك اصطحبنا أجهزة تسجيل ضخمة، وعالية الجودة فى التسجيل، وكانت هناك غرفتان واسعتان فى أحد أركان المسجد، كانت الغرفتان مخصصتين للتسجيل، وكنا نذهب يوم الجمعة قبل العاشرة صباحا لكى نستطيع أن نجد أمكنة فى إحدى الغرفتين المدججتين بعدد كبير من "الفيش" حتى يتمكن المصلون من التسجيل، بلا شك كان الشيخ كشك مبهرا فى أسلوبه، والأداء اللغوى القويم والرصين والذى يتخلله قدر من السخرية، كوكتيل من المتناقضات الأسلوبية التى كانت تجذب الناس المتعطشين إلى صوت يلبى غريزة التمرد الكامنة لديهم، ولم يجدوا أى ملجأ سوى ذلك الشيخ البارع فى التنقّل من النكتة إلى أبيات الشعر إلى إرسال بعض آيات القرآن والأحاديث النبوية فى رشاقة مذهلة، لم تكن ظاهرة الشيخ كشك صوتية فقط كما يزعم كثيرون، لكنها كانت حلّا مناسبا ومريحا ورخيصا وآمنا كذلك للحيرة التى اعترت الناس فى ذلك الوقت، فهى ظاهرة تتذرع بالقرآن والسنة والشعر المنحول أو المقتبس أو المؤلف، وكان الشيخ يعزف دوما على وتر الحريات التى كانت مفقودة فى عهد جمال عبد الناصر، كما أنه كان أحد التمهيدات الكبرى لتسويق وترويج فكر جماعة الأخوان المسلمين ومظلومياتهم، وكان هذا الأمر مرضيا عنه بنسبة ما، خاصة أن السلطة السياسية رأت فى ذلك الشيخ والدكتور مصطفى محمود ومن شابههم أفضل مخرج لضرب التيارات العلمانية والماركسية والناصرية وما شابه.
 
كان الشيخ وصوته الجهورى وأسلوبه القوى وبعض أفكاره التى يوفّر لها كافة طرق الإخراج الفنى، عناصر جاذبة لنا، كنت أنا أكثر انجذابا من محمود، وكان هو كثير القلق من ذلك الانجذاب، ولم يكف عن الأسئلة المرحة والمثيرة والمقلقة فى الوقت نفسه، والتى كانت تتهمنى بالحماس المؤقت، وكنت أدافع بشكل صادق عن موقفى، وفى هذا المجال كان محمود عقلانيا، فى مواجهة عاطفيتى، انسحب محمود بعد بضعة أسابيع من ساحة الشيخ كشك، معلنا عدم اقتناعه بما يقوله ذلك الرجل، وسرعان ما تكشّفت الأيام التالية عن صدق رؤيته، إذ كنت ألاحظ بعد انتهاء صلاة الجمعة، انصراف المصلين إلى حال سبيلهم، مع بقاء أعداد أخرى من المصلين، وعندما تساءلت: لماذا لا ينصرف الجميع؟ وماذا ينتظر هؤلاء الناس؟، قيل لى: إن الشيخ يعطى درسا خاصا بعد صلاة الجمعة، ولكننى لاحظت أيضا أن طابورا طويلا فى المسجد، يتحرك ببطء، وينتهى عند الشيخ نفسه حيث يجلس على مقعد على غير عادة الشيوخ الآخرين الذين يجلسون على حصير وسجاجيد المسجد، ووقفت فى الطابور لكى أعرف ماذا يحدث هناك، وبعد مايزيد عن نصف ساعة وصلت قرب الشيخ، ووجدت الناس يصافحون الشيخ مع تقبيل ظهر يده، وعندما وصلت إليه وصافحته، اندهشت من تلك اليد السمينة والأنثوية والناعمة والطرية، فانتابنى قدر من النفور، فصافحته فقط، وانصرفت دون عودة إليه بشكل مطلق، وكان هذا الأمر مثارا لحوارات مثيرة مع رفيق المسيرة محمود، الذى فجّر قدرا من أسئلة أخرى أخرجتنا من تلك الحالة التى وصفها آنذاك بأنها ليست أصيلة.
 
بالطبع كنا قد خرجنا من مدرسة حلمية الزيتون الإعدادية، ونحن معا فى أولى خامس، وتانيه خامس، وتالته خامس"، ودخلنا معا مدرسة ابن خلدون الثانوية، والتى لا تبعد عن المدرسة الأولى إلا ببعض خطوات، وجرت أحداث كثيرة فى تلك السنوات لا مجال لذكرها، ولكن الأكيد أننا انهمكنا فى القراءة بشكل أوسع، وكنت اتجهت إلى كتابة القصة، وهو لم يتزحزح عن كتابة الشعر مطلقا، وكان مغرما بأحمد شوقى، وكنت عاشقا لحافظ ابراهيم، وعندما وصلنا إلى المرحلة الثانوية، كنا قد قطعنا شوطا طيبا فى الشأن الأدبى، ذلك الشوط الذى دججنا بأسئلة جديدة، وماذا بعد؟، وكنا نتابع من بعيد المظاهرات الطلابية التى كانت تحدث تباعا وتطالب بتحرير الأرض، ومطالبة رئيس البلاد بضرورة الحرب مع إسرائيل، وكنا نتساءل دوما، من الذى يحرك المشهد الاحتجاجى فى الجامعة، كنا نسمع عن تلك المظاهرات كأنها حلم بعيد المنال، حتى أن فاجأتنا حرب أكتوبر عام 1973، وسارعنا فى الاشتراك فى قوات الدفاع المدنى التى كانت تعقد اجتماعاتها فى مقرات الاتحاد الاشتراكى، وكان حماسنا منقطع النظير، وكنا لا نعود إلى بيوتنا إلا لنيل قسط قليل من الراحة، ثم نعود مرة أخرى، كانت هناك محاضرات يلقيها بعض مسئولى الاتحاد الاشتراكى عن كيفية الدفاع عن المدينة فى حالة أى عدوان إسرائيلى على المدنيين وهكذا.
 
العدد الثالث من مجلة كتابات التى شارك فى تأسيسها
العدد الثالث من مجلة كتابات التى شارك فى تأسيسها
 
وعند إيقاف الحرب، لم نكن مقتنعين، وكنا على يقين بأن الحرب ستقوم مرة أخرى فى أى وقت، لذلك ظللنا على صلة ما بذلك الكيان المسمى بالاتحاد الاشتراكى، والذى نلتقى فيه بعضا من العارفين بالشأن السياسى، وظللنا طوال عام 1974 نتردد بشكل غير منتظم على ذلك المكان، حتى أن عرفنا أن هناك أحد الأشخاص يقود فريقا من الشباب الجامعى من الطلاب والخريجين لإنشاء فصول تقوية لتلاميذ المدارس فى مقر الاتحاد الاشتراكى مجانا، كان هذا الشخص يسمى سامى عزيز، شديد الحيوية، وذو ثقافة سياسية عالية، أدركنا معه كثيرا من الأحداث الطلابية وأهدافها، ومن دواعى سرورنا أنه كان أحد قيادات الحركة الطلابية المرموقين، إذ كان مقررا لأسرة عبد الحكم الجراحى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والأكثر مدعاة للسرور أن والده "عم عزيز" كان صديقا لوالدى.
 
أشركنا سامى فى فصول التقوية، وكانت تدور بيننا حوارات سياسية وفكرية وثقافية واسعة وشاملة وعميقة، وكان سامى شخصية قيادية على المستوى الجماهيرى، وشخصية جاذبة ومحبوبة منا جميعا، ولكننا محمود وأنا كنا نتساءل: لا بد أن يكون سامى عارفا بمن يحرك المشهد، ويعرف القوى السياسية التى بدأنا ندرك تجلياتها من خلال أصدقاء سامى، وأذكر أنه أتى ذات يوم مصطحبا معه الصديق فريد زهران، وكان عائدا منذ شهور من الجزائر، وكان أحد قيادات الحركة الطلابية من خلال الأسرة التى كان مقررا لها فى كلية الزراعة جامعة القاهرة، أسرة عبد المجيد مرسى، وتعرّفنا على شريكه فى قيادة الأسرة "نزار سمك" بعد قليل من تلك المقابلة التى جرت فى منزل محمود، وكان سامى يدير الحوار بجدارة، وكنا شديدى الإعجاب بثقافته وطموحه وثوريته وقدرته على تنظيم اجتماعاتنا، وكان قد بدأ يعطينا نشرة سياسية ذات طباعة متواضعة، وكانت النشرة تحمل عنوانا لافتا "الانتفاض"، كنا نقرأها بنهم، ونعود نناقش سامى فى كل تفاصيل النشرة، كانت عناوين الموضوعات المنشورة مختلفة وحادة ومغرية للقراءة، ومحاولة استشراف للعالم الذى يدير مثل هذه المطبوعات، كانت المقالات المنشورة بأسماء مستعارة، ولاحظنا أن اسما كان يتردد بكثرة، وهو صالح محمد صالح، وكان أسلوبه السياسى مفعما بعذوبة أدبية، رغم الحدة السياسية التى كانت تقفز من بين السطور، كانت غالبية المقالات تناقش وضع الحرب، والتى أطلق عليها "حرب تحريك، وليست حرب تحرير"، وأن السادات لم يدخل الحرب إلا لكى يضع مقدرات البلاد تحت رحمة الأمريكان، وكان قد أعلن أن 99 فى المائة من أوراق اللعبة فى أيدى أمريكا، كانت المقالات تشنّ هجوما لا هوادة فيها على أنور السادات الذى قرر أن ينهى الحرب بعد أيام معدودات، ويهدر الانتصار الذى حققه الجيش المصرى.
 
ظللنا نتلقى النشرة  - محمود وأنا -  وننتظرها بشوق، ونحاور صديقنا سامى عزيز، ولكننا كنا ندير حوارا خاصا بيننا بعيدا عن سامى، وعن صحّة تلك الأفكار، وهل هناك قوى سياسية معارضة أو سريّة قادرة على التصدى للسلطة، كانت أسئلة جادة، ولكن لا إجابة عليها، حتى فاجأنى سامى بأن الحزب الذى يصدر تلك النشرة، ويتبنى الأفكار الواردة فيها، وهو "حزب العمال الشيوعى المصرى"، قد رشحنى للعضوية، وبدأت منذ ذلك الوقت أحضر اجتماعات سريّة، وكان سامى قد اختار لى اسما حركيا فى البداية وهو "محسن"، وعندما سألته: لماذا محسن؟، قال لى بأنه يرى شبها بينى وبين "محسن"، بطل رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، وقبل أن يتم تصعيدى من مرشح إلى عضو كامل، كان رفيق آخر قد فاتح العزيز محمود فى الانتماء لحزب العمال أيضا، وهكذا صرنا فى فترة وجيزة منضمين إلى أشرس حزب سياسى سرّى فى مصر، وكانت القوى الأخرى يطلقون علينا "الأسياخ"، بعدها قرأنا فى صحيفة الجمهورية أن بعض الطلّاب الذين شاركوا فى أحداث شغب هاربون، ومطلوب القبض عليهم، وكان اسم سامى عزيز  - الرفيق صفوان - ضمن هؤلاء الطلاب، رغم أنه كان قد تخرّج من الكلية، وبعد شهرين من الهروب، تم القبض عليه فعلا، ثم أفرج عنه، وبعد ذلك أنهى تقريبا علاقته بالعمل السياسى، ليتركنا نكابد كافة الطرق والمنحنيات السياسية التى واجهتنا وواجهناها فيما بعد، ثم تزوج، والتحق بوظيفة فى البنك المركزى، وقضى بضع سنوات فى البنك، ثم سافر إلى الكويت، وعاد منذ سنوات لنلتقى مرة أخرى_أطال الله فى عمره، وقد اتجه للبحث والدرس الاقتصادى، وهاتفنى حزينا بعد رحيل محمود نسيم وكان متأثرا للغاية، وتبادلنا بعض الذكريات التى جمعت ثلاثتنا فى أيام مجيدة سابقة.

معركة الشعر:

فى ظل كل ما كان يحدث حولنا، كنا نعمل على قدم وساق فى محاولة التقدم فى مضمار الكتابة الأدبية، كنت قد هجرت الكتابة السردية بعد أن كتبت رواية قصيرة عنوانها "الغريب"، متأثرا بغريب "كامو"، واتجهت إلى كتابة الشعر الذى عدت إليه وكأننى كنت فى غربة تعسفية، بعد أن هجرته منذ زمن طويل، وانخرطنا مرة أخرى فى قراءة ما بعد شوقى من مدرسة أبوللو، كان منزل محمود يقع فى 4 شارع أحمد ماهر بأرض النعام، وكانت شقة أهله فى الدور الأرضى، وكانت فى منزل الأهل بلكونة أرضية، وكنا كثيرا ما نجلس فيها ويقرأ كل منا للآخر ماجادت به القريحة، وأمام المنزل بيت من طابقين، الطابق الثانى كان يسكنه بعض من الشباب، وكنا نتبادل التحايا من بعيد، وكأن هناك ما يربطنا، حيث كنا نمسك كتبا، وأوراقا نقرأ منها، حتى أن فاجأنا أحد الشباب القاطنين فى الطابق الثانى، وكانت هيئته مثيرة للغاية، حيث كانت له لحية تشبه لحية ديستوفيسكى، رغم براءة وجهه، وكانت أسنانه متأثرة بشكل كبير من التدخين، وبعد تحية المساء وتبادل بعض الجمل بيننا، عرفنا أنه يكتب شعرا، وأن اسمه "أسامة الخولى"، وأنه طالب مزمن فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس، فاستضفناه فى شقة محمود، وكان اللقاء الأول عاصفا ومربكا وحادا وجادا، إذ قرأ علينا بعض قصائده، واستمع إلينا منصتا بشكل لافت، حيث كان يتوقف عند كل جملة ومفردة، وفى نهاية ذلك الإنصات، قال لنا: "إن هذه الكتابة شديدة الرجعية، كيف تكتبون ذلك الشعر العمودى بعدما خاض صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى والبياتى والسياب ونازك الملائكة وغيرهم معارك ضارية من أجل تكسير عمود الشعر"، كنا ننظر إليه مندهشين، وهو يتحدث بحماس ويقين شبه تامين، دون أن يتلعثم فى كل ما يقول، وكان محمود يحاول أن يقاطعه ولكن دون جدوى، إذ استكمل حديثه قائلا: "قصائدكما تنم عن أنكما موهوبان، ولديكما قدر من الروح الشعرية الوثّابة، ولكن الشعر ليس روحا وموهبة وموسيقى، بل الأهم الكيفية التى تدار به تلك الروح والموهبة والموسيقى"، وصرخ كأحد ممثلى المسرح التجريبى :"الموهبة وحدها لا تكفى"، وقبل أن نقاطعه قال ما دفعنا إلى أن نبتسم فعلا، إذ قال: "ورغم إنجازات كل هؤلاء الشعراء الكبار والرواد، إلا أن الشاعر أمل دنقل، سيصبح أهم شاعر فى الشرق الأوسط"، وعندما ضحكنا عاليا، اندهش وسألنا لماذا الضحك؟، فأجبناه حاسمين بأننا مندهشون من كون اسم الشاعر "أمل"، كما أننا لم نسمع به مطلقا، وكان تعقيبه بأنه ليس مسئولا عن جهلنا وفقر معرفتنا، وبأننا لسنا متابعين للحركة الشعرية المصرية والعربية، ولا ندرك ما حدث فيها منذ ثلاثة عقود على الأقل، ولم تصل إلى أسماعنا إنجازات الأجيال المتعاقبة بعد مدرسة أبوللو، وأننا مازلنا واقفين عند تلك المدرسة التى اندثرت معالمها وآثارها تماما، وأصبحت فى حكم التاريخ، وأصبح شعر هذه المدرسة، شعرا متحفيا لا يصلح للتداول فى عقد السبعينات، ثم قرأ لنا قصائده التى أثارت فضولنا للتعرّف أكثر على قصائده، وكان إلقاؤه فارقا بدرجة كبيرة، ثم قرأ قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل، والتى كان يحفظها، وأدّاها بشكل لم نعهده من قبل.

المخلص والضحية
المخلص والضحية

درس أسامة الخولى كان درسا عميقا وبليغا وحادا وجادا بدرجة أيقظتنا من نوم طويل، فبدأنا نبحث عن تلك الأسماء التى ذكرها لنا وخاصة أمل دنقل شاعر الشرق الأوسط القادم حسب "الخولى"، وفى هذا الشأن وضع نسيم فى شهادته عدة اختيارات لكى يبدأ حديثه عن حياته وأهم المؤثرات التى حفرت نفسها فى تلك الحياة، ورغم أن عبارات سريعة جاءت عن أسامة الخولى، إلا أنه كان يعتبره بداية من بداياته، ولذلك أقتبس من شهادته تلك الاختيارات التى وضعت أسامة فى قلب تجربته: "..يجابهنى سؤال البداية: من أين أبدأ؟ وكيف أنجو من انتقائية الذاكرة وتداعياتها المرسلة، هل أبدأ من تلك اللحظة الأولى التى تتماهى مغبشة وسحرية، وأمى تصعد بى صغيرا لم يبلغ الخامسة إلى سطح منزلنا فى القرية، تمسك عود حطب وكتابا، وتقول لى آمرة: اقرأ، متمثلة نبيها فى الغار وقد جاءه الوحى بكلمة البداية وسرها، أم أبدأ بغيابها الذى خلفنى فى الحياة نصف موجود، أم حين حدق فىّ أسامة الخولى بلحيته الكثيفة المهوشة وعينيه اللتين تجولان فى المكان كحركة بندول، وصاح بى مندهشا من الشاعر الصغير المتحمس لشوقى والشعر العمودى: كيف لا تعرف أمل؟ إنه شاعر الشرق الأول، وكيف أنى ذهبت مسرعا واشتريت ديوان أمل وقرأته فى محطة القطار..".

كانت مقابلة أسامة الخولى إحدى المحطات الكبرى التى لعبت دورا محوريا فى تجربة محمود الشعرية والحياتية، كنا قد تعرّفنا على الشاعر أسامة مهران، وهو جار محمود، وابن خالة زميلنا محمد عبد الله فى المدرسة، وشاركنا أسامة كثيرا من أحاديثنا ومناقشاتنا وجلساتنا وأسمارنا ومقاهينا ومنازلنا، وكنا حتى هذه اللحظة لم نخرج بعيدا عن الأحياء التى نسكنها ونقضى غالبية أوقاتنا فيها، ولكننا كنا نحرص على شراء مجلتى الطليعة والكاتب بشكل دائم، وفى أكتوبر من عام  1975 قرأت فى مجلة الطليعة قصيدة غريبة ولافتة وبديعة لشاعر اسمه أمجد ريان، كان الاسم جديدا جدا أيضا، ولم نسمع به من قبل على الإطلاق، وكان عنوان  القصيدة "المسبحة" لافتا لنا جدا، وكان مطلعها وعالمها وموسيقاها ومعجمها وروحها عناصر جديدة علينا كذلك، وأبلغت رفيقى محمود بالقصيدة، وقرأتها عشرات المرات، للدرجة التى حفظتها كاملة آنذاك، وكنت أردد مطلعها دوما مع نفسى:
(ولجدى مسبحة لا تهدأ بين أصابعه الممشوقة
يرقبنى بالعينين الثابتتين
بينا ترقص بين أصابعه تلك المسبحة البنية
........
ويقول لأمى:
يازينب، ولدك صار شيوعيا
أمى من بولاق 
وأبى من جرجا..
وأنا ولد خرج من الدهشة
تضرب أمى بالكفين الصدر:
ولدى منذ طفولته يملأنى بالخوف..)
هذا المطلع من الذاكرة، وأعتقد أنه رسخ فى وجدانى هكذا، وأنا متأكد أنه ليس كذلك تماما، وليس أمامى المرجع الذى يؤكد لى دقتها، لكن هذه على الأقل الروح التى كانت القصيدة مفعمة بها، ولكن كرّ السنوات ودورانها قد فعل الكثير بنا.
انبهر محمود بالقصيدة مثلى، وقررنا البحث عن أمجد ريان بكل الطرق، وقررنا الذهاب إلى مجلة الطليعة، وكنا نعلم أن مجلة الطليعة تصدر عن جريدة الأهرام، وذهبنا، وكان قد قيل لنا بأنها فى الدور السادس من الجريدة، ولكن قد ضاقت بها الدولة، وعندما ذهبنا معا لمقابلة الناقد فاروق عبد القادر المشرف على الملحق الثقافى للمجلة، أخبرونا بأن مقر المجلة انتقل إلى المبنى المجاور، وهو المبنى الذى أصبح فيما بعد المبنى الجديد للأهرام، وهو الذى صار يضم مجلات نصف الدنيا وعلاء الدين والأهرام الرياضى وغير ذلك من مطبوعات أخرى، ولكنه كان وقتذاك مجرد فيللا، ولها فناء واسع، وكانت مقرّا لمجلة الأهرام الاقتصادى، ولما ضاقت المؤسسة بمجلة الطليعة، أعدّوا مكتبا زجاجيا فى مدخل الفيللا، وجعلوه مكتبا لمجلة الطليعة، وذلك كنوع من التنكيل بالمجلة، وذلك بعد المقدمة التى كتبها أبوسيف يوسف - نيابة عن لطفى الخولى الذى كان خارج البلاد فى إحدى سفرياته-  وتطرقت المقدمة إلى حديث عن مفاوضات فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل فى الكيلو 101، وهذا الكلام لم يعجب السادة آنذاك، فبدأوا الحرب الشعواء على المجلة بهذه الخطوة التمهيدية لإغلاقها، حتى انتهى الأمر إلى تغيير مسارها تماما، والإطاحة برئيس ومجلس تحريرها، وتنصيب الصحفى صلاح منتصر كرئيس تحرير لها، واختيار عنوان آمن للمجلة وهو "الطليعة.. مجلة الإنسان وعلوم المستقبل"، بديلا عن "الطليعة طريق المناضلين إلى الفكر الثورى المعاصر"، ولكن هذه قصة أخرى ليس مجالها الآن.
 
التقينا بالناقد فاروق عبد القادر فى مكتب الطليعة الجديد، وكان رجلا ودودا فى حواره معنا، واستقلنا بروح محبة، ولكننا لاحظنا أنه كان حاسما فى كل ما يقول، ولديه يقين كامل بما يعتقد، وهذا الاعتقاد ظل عندى تجاهه حتى بعد أن تعرّفنا عليه أكثر، وقد صار فيما بعد صديقا شديد القرب من محمود نسيم، ودائما ما كانا يتذكران ذلك اللقاء البعيد، ويقول لنسيم مازحا: أهوه ياسيدى، بقينا أصدقاء وحبايب وممكن تختلف معايا وتنتقد كلامى، بعد ماكنت مجرد قارئ عابر لكتاباتى تتمنى أنك تشوفنى بس"، فاروق عبد القادر ناقد معتد بنفسه، وكانت لديه قدرة على الاستغناء، عنيف..نعم، لكنه كان يملك منطقه ورؤيته وأيديولوجيته، ولكنه لم يكن متهافتا ولا مراوغا، كان متحاملا جدا على البعض، مثل حملته الظالمة على جمال الغيطانى وكتاباته، ولكنه كان – دائما - يجد مايبرر نقده، أما الطريقة والكيفية فهو أسلوبه الذى يراه، كما كان يقول دائما، وخاض معارك ضارية، لم يستطع أحد غيره بشكل مطلق أن يخوضها، حتى مع لطفى الخولى نفسه، الذى اختاره لكى يشرف على القسم الثقافى بالمجلة، ومن فضائل عبد القادر أنه نشر ما كتبه عن الخولى، ونشر معه ردود لطفى الخولى عليه، والتى كانت توجه سهاما قوية له، المهم خرجنا من لقاء حافل بالأفكار دام ساعتين، ونحن أكثر حماسا وأملا وتفاؤلا. 
 
شعراء السبعينيات
شعراء السبعينيات
عرفنا أن أمجد ريان ورفاقه ينشرون فى مجلة الكاتب التى كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، ذهبنا معا إلى المجلة فى 1117 شارع كورنيش النيل، فى الزيارة الأولى لم نقابل الشاعر الكبير، حيث أنه كان يترك المجلة قبل الواحدة ظهرا، ولكننا التقينا بشخص شديد الأدب والرقة والعذوبة، وهو الناقد على شلش، وأبلغنا بهدوء اعتدنا عليه فيما بعد، بأن الأستاذ صلاح سيكون موجودا بعد غد، وعلينا أن نأتى قبل الواحدة ظهرا، وبالفعل ذهبنا إلى المجلة، كان عبد الصبور يجلس على مكتب خشبى قديم، فى غرفة ضيقة مفتوحة لأى قادم، تنطوى على أنتريه كذلك متهالك، بينما كان فى صدارة المكان المكتب المغلق والفاره لمجلة "الجديد" البائسة، والتى كان يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدى، ورغم ضيق غرفة مجلة الكاتب، ومقاعدها القديمة والمتهالكة، لكننى لا ولن أنسى استقبال صلاح عبد الصبور المبهج لكل ضيوفه، حتى لو كانوا فى العشرين من أعمارهم مثلنا، كان يجلس كأستاذ من أساتذة العالم القديم، يلتف حوله تلاميذه أو قل محبوه، أو قل حواريوه، كان آسرا كنهر عذب، وشامخا، كان يجلس أمامنا، وكأننا نتخيله، لا نجالسه، وكان يتلقى النصوص الأدبية للشباب بمحبة غامرة، ويجيز ما يعجبه، ويكتب على ما لايعجبه "يحفظ"، كما أنه يقوم بمناقشة كاتب النص دون أى تجريح، واقتراح بعض التعديلات فى النصوص كان يقوم بدور المعلم ورئيس التحرير وكذلك الأب.
 
فى ذلك اللقاء واللقاءات التالية، التقينا بالشعراء أمجد ريان وحلمى سالم ووليد منير وحسن طلب وجمال القصاص ورفعت سلام ونجيب سرور وكثيرمن كتّاب القصة والأدباء الشباب والفنانين منهم يوسف أبورية وصلاح عنانى وسعد الدين حسن وغيرهم، وتوطدت علاقتنا بغالبية هؤلاء الشعراء والكتاب الذين صاروا أصحابا أعزاء ورفاق عمر فيما بعد، وعلى الفور استضفنا الشاعر أمجد ريان لكى نستمع إليه، وبالفعل لبّى رغبتنا، ولم يكن يكبرنا إلا بعامين فقط، وعقدنا اللقاء فى منزل محمود نسيم، وفى ذلك اليوم أمطرنا أمجد شعرا مبهرا وجميلا، فضلا عن أنه راح يحدثنا عن حركة شعرية موارة الآن فى مصر، تجاوزت كل ما حدث من حركات شعرية سابقة، وعلى عاتق هذه الحركة ستولد نهضة شعرية كبيرة، نهضة ستفجّر كل الطاقات الكامنة لدى شباب الشعراء الموهوبين، كان أمجد يتحدث بثقة مطلقة، ودون أى لجاجة، كأنه يحمل رسالة كبيرة للمستقبل، وكانت قصائده التى تنهل من كافة أشكال التراث الدينى والفلكلورى  والفكرى والثقافى تشكل "كوكتيل" فنى لم نعرفه فيما قبل، وحكى لنا عن شعراء آخرين قدّموا تجارب مهمة، وعلى رأسهم الشاعر الذى رحل أغسطس من العام نفسه "1975"، وكذلك حلمى سالم وآخرون.
 
بالطبع كانت لدينا فكرة عن الشاعر على قنديل الذى صدمته سيارة وهو يعبر الطريق، وكان قد تجاوز الثانية والعشرين بقليل، إذ كان من مواليد 5 أبريل عام 1953، ورحل فى أغسطس 1975، وكان طالبا فى كلية الطب جامعة القاهرة، وكان تلميذا مخلصا للشاعر محمد عفيفى مطر، وكنا نتابع كذلك الكتابات التى تواترت فى مجلة الكاتب منذ رحيله، حتى أعدّ الشاعر حلمى سالم ملفا عنه فى المجلة عدد أكتوبر عام 1975، وكتب فيه جمال القصاص والشاعر سيد حجاب بالإضافة إلى حلمى سالم الذى قال فى مستهل ماكتب: "إن موت شاعر حقيقى خسارة فادحة ، وليس الحزن على موت على قنديل سوى إدراك لما كان يعد به - وعدا موهوبا -  من عطاء..كان على قنديل واحدا من الشعراء المصريين الشبان الذين يحاولون - بإخلاص ومسئولية-  خلق حساسية شعرية جديدة فى القصيدة.. يحاولون فى معاناة شهيدة وصمت..."، واستطرد حلمى سالم فى الحديث عن "الموجة الشعرية الطالعة" - حسب تعبيره -  التى ينتمى لها على قنديل، دون التركيز على الشاعر الراحل، وهذا مما أغضب الشاعر حسن طلب الذى نشر تعقيبا على الملف فى العدد التالى  - نوفمبر 1975 - مهاجما حلمى سالم، والذى رآه لم يبذل مجهودا حقيقيا فى التعريف النقدى بزميله الراحل، وكتب حسن قائلا: "..ماكتبه حلمى سالم ليس مقالا بالمعنى الدقيق، بل ديباجة موجزة مركزة على حقيقة يتيمىة، خى أن على قنديل كان واحدا من حركة أدبية شابة تسعى لخلق حساسية جديدة من خلال فهم استراتيجى للفن على أنه مجرد تشكيل، ولعل حلمى سالم لم يكن معنيا بخصوصية الكتابة عن على قندبا بقدر ما ماكان مهتما بالإشارة إلى تلك الحركة التى ينتمى إليها، ومن هذه الزاوية تكون ديباجته قد أدت المطلوب منها"، وفى ذات العدد هناك مقال لجابر عصفور ينعى فيه الحركة المصرية كلها، بما فى ذلك أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، وبالطبع الحركة الشعرية الطالعة، ويطلق علي الحالة الشعرية فى مصر أنها تمر بما أسماه "الوخم الشعرى، ولم يستثن سوى قصيدة "القاهرة" للشاعر على قنديل، وفى مقابل ذلك أثنى بشكل واضح وصريح بالحركة الشعرية فى العالم العربى، وتعقيب دكتور جابر كان بعضا من التحامل على الحركة الشعرية المصرية الجديدة.
 
فجوة الحداثة العربية
فجوة الحداثة العربية
وربما يكون البعض محقين فى ما ذهبوا إليه، لأن كثيرا من الشعراء الجدد كانوا مازالوا مشاريع أولى، ولم تكن قد تحددت لهم ملامح شعرية وفكرية وثقافية خاصة، وكانت تجربة محمد عفيفى مطر ناشبة أظفارها فى غالبية قصائد الجيل، ولم يكن الجميع قد اهتدوا إلى الطريق الذى اعتدل فيما بعد ذلك، إذ كان بعض الشعراء الضالعين فى صياغة ملامح الحركة الشعرية الطالعة وقسمات الجيل الجديد، متأرجحين فى النوع الكتابى، والتوجه الثقافى، وذلك من خلال القصائد التى كان ينشرها بعضهم فى مجلة الجديد المتواطئة مع الرجعية الثقافية، وكان الشعراء حلمى عبد الغنى سالم "حلمى سالم" وعبد المنعم رمضان عبيد "عبد المنعم رمضان" ومحمد عيد ابراهيم وأحمد طه وجمال عبد العزيز القصاص "جمال القصاص"، وعبد المقصود عبد الكريم وغيرهم ينشرون فى مجلة الجديد، وبعضهم كتب قصائد باللهجة العامية، وعلى رأسهم حلمى سالم الذى نشر قصيدة فى العدد الصادر بتاريخ 15 سبتمبر 1972 عنوانها "الورقة الأخيرة من مذكرات دون كيشوت"، يقول فيها:
(واتلمت الأسواط وصفحات الطبول
واتلمت التعاويذ
واتلمت الأحجار تطهر رجس جسمى
واتلم فى عنيه الذهول
أعلن كفرى للشمس.. للكلمة..للناس
واحرس لهفتى ليكى
وامشى بين الحراسط
وانا شاعر بحبك...)
لذلك لم تكن الملامح والقسمات الخاصة التى ظهرت فيما بعد، قد اتضحت، وهذا ما أعطى كثيرا من النقاد والباحثين والمتابعين والأدباء عدم الحماس فى المرحلة الأولى لتلك الحركة الشعرية الوليدة.
ودون استطرادات أخرى، حدث أن التقى الشعراء المصريون، وتحددت كتلتان ثقافيتان وفكريتان، هما "إضاءة 77، وأصوات"، وربما كان الموقف السياسى يقف كخلفية غير واضحة لتحريك بعض من المشهد الشعرى، وهذا له شأن آخر، وانتمى محمود نسيم بكل قوته إلى جماعة حلمى سالم، تلك الجماعة التى ضمت الشعراء حسن طلب - الذى كان متحمسا بعد انتقاداته السابقة الذكر - ورفعت سلام وجمال القصاص، وكان حول هؤلاء شعراء ومثقفون وأدباء كثيرون، وكانت أفكار حلمى سالم لها حضور قوى للغاية، ليس فى تأسيس مجلة، ولكن فى إطلاق حركة شعرية فرضت نفسها على الحياة الثقافية، وتلك المجلة ستكون لسان حال تلك الحركة الشعرية، وكانت خطة المجلة أو خطة القائمين الأوائل على تحريرها "حلمى سالم وجمال القصاص وحسن طلب ورفعت سلام"، أن المجلة ستضم فى هيئة تحريرها تباعا بعض شعراء آخرين، وكانت اجتماعات المجلة التى كنا نحضرها_محمود وأنا_ تتم فى مقهى باراداى بالدقى، أو فى منزل الشاعر حسن طلب، والذى يتمتع بثقافة فنية وأدبية وفلسفية عميقة.
 
صدر العدد الأول من إضاءة 77 فى يوليو عام 1977، وتوطدت علاقة نسيم بحلمى، وأبدى لى حلمى سالم إعجابه بقصائد محمود نسيم، وأبلغنى _حلمى_ بأنهم سيعدون ملفا عن شعر محمود نسيم، ويقول محمود فى شهادته: "..تعرّفت على حلمى سالم فى بيته ببولاق بعد صدور العدد الأول من إضاءة، قرأت له بعض القصائد وأعطيتها له، بعد أيام قليلة، قابلنى شعبان وبادرنى قائلا: إنهم فى إضاءة سوف يصدرون عنك ملفا مستقلا، لماذا؟ تساءلت مندهشا، أجاب: لأنهم مندهشون من كونك تكتب شعرا ناضجا، هكذا بتعبيره، ولم تنشر بعد، بعد ذلك، تراجع الأصدقاء عن فكرة الملف واكتفوا بنشر قصيدة (اعتراض شعرى على شخصية شعبان يوسف) فى العدد الثالث، كان العنوان لافتا، ربما أكثر من القصيدة ذاتها، مما سبب انتشارا نسبيا"، وبهذه المناسبة قررت المجلة أن تصدر كتابا شعريا تحت عنوان "كتاب إضاءة"، وكان العدد الأول للكتاب هو ديوان محمود نسيم الأول "السماء وقوس البحر" عام 1983، وبعد ذلك صدرت دواوين شعرية أخرى لمحمود نسيم_كان آخرها ديوان لاعب الخيال_ الذى كنا سنحتفل به قريبا، أصدر دواوينه الشعرية قبل أن يتجه بمعظم طاقته إلى المسرح، وإلى أبحاثه الأكاديمية وإلى تعليم أجيال فى أكاديمية الفنون.
 
آخر ندوة شارك فيها بالاحتفال بالشاعر حين طلب فى منتدى بتانة
آخر ندوة شارك فيها بالاحتفال بالشاعر حين طلب فى منتدى بتانة
 
هذه سطور لا تريد أن تنتهى، ولكنها مجرد تداعيات ظلّت تطاردنى وأنا أسير خلف جثمانه الكريم، ونحن فى طريقنا الموجع لتوديعه للأبد، وأنا أهجس لنفسى : "هكذا يامحمود بدأنا رحلتنا على انفراد، وها أنا أودعك منفردا ووحيدا كذلك، وكان الوداع يخلو من أقرب الناس إليك، إلا من تلميذ أصرّ أن يشاركنى حزنى ووحدتى وطريقى وفجيعتى التى لا تستطيع كل كلمات الدنيا أن تصفها، ذلك التلميذ هو المخرج عمرو قابيل، الذى لم يكتف بعزاء الفيسبوك الهزيل، وجاء يقاسمنى محنتى ويبكى معى على قبره فى مسقط رأسه "ميت محسن ..ميت غمر"، وأبلغك أن صديقك محمد عبد الحافظ ناصف كان فى رفقتنا، ولكنه انصرف مبكرا بعد أن ودعك، وذهب إلى مشاغله، وأعدك يارفيق عمرى بأننى سوف أستكمل سيرتك العطرة، والتى أغفلها كثيرون، حتى أنت لم تتحدث عنها إلا قليلا.








الموضوعات المتعلقة


مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة