سهيلة فوزى

"الممر" ونوستالجيا سينما أكتوبر

الجمعة، 21 يونيو 2019 02:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لسنوات طويلة تحدث كثيرون من صناع السينما عن صعوبات تقديم أفلام عن حرب أكتوبر، كانت التكلفة المالية دائما العائق الأكبر، فعمل سينمائى حربى يتطلب ميزانيات ضخمة، ودعما من جهات الدولة المعنية؛ حتى يخرج بشكل لائق. وفى موسم عيد الفطر السينمائى تحققت كل تلك الأمنيات مع عرض "الممر".
 
يبدأ الفيلم بنكسة يونيو 1967، وغضب الضابط المصرى "محمود" من قرار انسحاب القوات المصرية إلى غربى القناة، تاركة سيناء فى يد المحتل الإسرائيلى، بعدها يحاول صناع العمل عرض صورة بانورامية مكثفة لحال المجتمع المصرى بعد الهزيمة، أبرزها مشاجرة بين بطل الفلم، الضابط نور "أحمد عز"، وموظف سنترال سخر منه عندما علم أنه ضابط بالجيش، فقال له متهكما بعدما تعمد التلكُؤ فى تحويل مكالمته: "أصل الخطوط انسحبت".
  
فى النصف الأول من الفيلم، حاول المخرج شريف عرفة، بمشاركة أمير طعيمة فى كتابة الحوار، تقديم إطار إنسانى لمجموعته القتالية، فبعد اشتباك أحمد عز مع موظف السنترال، يتوالى ظهور الأبطال فى حياتهم المدنية، بعيدًا عن الأجواء العسكرية.
 
شاب نوبى "أمير صلاح الدين" يرفض العودة إلى كتيبته بعد النكسة، مستعرضا لصديقه الصعيدى معاناة النوبيين بعد التهجير، كلمات لخصت بإيجاز مشكلة النوبة، لكنها قُدِّمت للمشاهد كقراءة جريدة، العجيب أن الشاب نفسه قدّم دور المجند المشارك فى العملية العسكرية بأداء أفضل كثيرا.
 
حتى النجم أحمد عز لم ينجُ من تناقض الأداء، ولا النجمة هند صبرى "ضيفة شرف العمل" التى ظهرت فى دور زوجة الضابط المساندة والداعمة له لاستكمال دوره وخوض الحرب، ورغم موهبة "هند" الكبيرة، وحرصها الواضح على الظهور بشكل يليق تماما بحقبة الستينيات، إلا أن المشاهد التى جمعتها بزوجها كانت فاترة. ليطل من جديد أداء قراءة الصحف، والخطابة بلا مبرر، فى ظل غياب مريب للمخرج شريف عرفة.
 
أبرز الممثلين الذين حافظوا على إجادة الأداء بين المدنية والعسكرية - فى رأيى - كان الفنان محمد فراج، الشاب الصعيدى الغاضب بعد النكسة، يشعر دوما بالعار الذى يلاحقه، فيرفض نزول الإجازات هربا من مواجهة أبيه بعد الهزيمة.
 
أما أهل سيناء، فكان الدور التقليدى للحضور السيناوى فى انتظارهم، فى صورة "الدليل" الذى يُرشد المجموعة فى دروب سيناء، ويُوقعه سوء حظ المجموعة فى أيدى الإسرائيليين، بعد الاشتباه فيه، فتظهر أخته "أسماء أبو اليزيد" وتلعب دور الدليل، ورغم صغر دورها إلا أن أداءها كان أكثر حيوية، وربما حالفها الحظ لأن ظهورها جاء فى النصف الثانى من الفيلم، حيث إيقاع العمل أفضل كثيرا وأكثر تماسكا.
 
أعتقد أن محاولات صناع العمل لتقديم إطار إنسانى للفيلم كانت دون المستوى، رغم المساحة الزمنية التى أُتيحت لتلك المحاولات، إلا أنها كانت أضعف الحلقات، بل أدخلت العمل فى مقارنة مع كلاسيكيات سينما أكتوبر التى ارتبطت بها أجيال السبعينيات وما بعدها، رغم ضعف الإمكانات المتاحة وقتها، وحملات التقليل والتشويه التى مُورست ضدها من أجيال شابة لم تشاهد أغلبها.
 
على سبيل المثال فيلم "الطريق إلى إيلات" لمخرجته القديرة إنعام محمد على، وهو أحد أهم الأفلام التى قدمت تفاصيل عملية مصرية ضد أهداف عسكرية إسرائيلية عقب النكسة. التشابه بين طبيعة العمليتين جعل الطريق إلى إيلات يقفز للذاكرة من جديد، فرغم فارق الإمكانات الفنية والتكنولوجية، لصالح "الممر" بالطبع، إلا أن "الطريق إلى إيلات" يتفوّق بجدارة فى جانبه الإنسانى، مقارنة بالعلاقات الإنسانية الباهتة فى الأخير. أغنية جنود "الطريق إلى إيلات" فى حفل زفاف زميلهم، عبّرت عن روح العزيمة والحماسة التى سيطرت على الجنود، وهم فى طريقهم إلى مهمة لا يعرفون شيئا عن تفاصيلها، لكن تُغذيهم روح الوطنية والرغبة فى الثأر، كل تلك المشاعر وصلت للمشاهد دون شعارات أو خطابة.
 
أداء الممثلين، وإيقاع العمل بشكل عام، مسئولية المخرج فى المقام الأول، وبالرغم من نجاح شريف عرفة، بالتعاون مع فريق عمل أمريكى لتصميم المعارك، فى تقديم مستوى عالٍ من الحرفية والإتقان والإبهار فى صورة الشق الحربى للفيلم، لكن أكثر ما أدهشنى وجود ضابط قوات صاعقة بحرية بـ"كرش"، كيف لم ينتبه "عرفة" فى أكثر من "كادر" إلى "كِرش" أحمد صلاح حسنى متصدرا الصورة بشكل لافت ومزعج، ولا يتناسب إطلاقا مع دوره، فلماذا كان التمسك به فى الدور، خاصة أنه لم يقدم أداءً جيدا يستوجب إشراكه فى العمل، بل على العكس تماما يُعدّ أضعف حلقات العمل تمثيليا.
 
أما "إحسان"، المراسل الحربى الذى رافق المجموعة لتسجيل العملية ومعايشة الأبطال على الجبهة، فهو صحفى مغمور، انتهازى، يستغل مهنته فى الترويج للراقصات طمعًا فى المال. شخصيا لست ضد تقديم صورة سلبية لمهنة فى الأعمال الفنية، ولا أجد ذلك سببًا لثورة أصحاب المهنة على العمل، لكن فى "الممر" اختلف الأمر قليلا، فالشخصية التى لعبها الفنان أحمد رزق حملت على عاتقها الخط الكوميدى المرِح فى الفيلم، إلى جانب المجند الذى لعب دوره الفنان محمود حافظ، وهذا أمر لا ينتقص من المهنة فى شىء بالطبع، لكن المأخذ فى تقديم نموذج وحيد مُحمّل بكل تلك السلبيات لشخصية الصحفى، بل ووصم كل زملاء "إحسان" فى الجريدة برفض السفر لتغطية الجبهة، لذلك اضطر رئيس التحرير إلى تكليفه بالسفر.
 
تُضاف إلى ذلك السخرية غير المُبررة من اسمه، رغم تشابهه مع الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وهو أحد أهم صحفيى مصر، وأشهر روائى ذخرت السينما المصرية بأفلام مأخوذة عن رواياته، إلى جانب تعالى أغلب الجنود فى التعامل مع الصحفى، والنظرة المُتشكّكة دائما فى مصداقيته، وأسئلته الساذجة للجنود ضمن تغطيته لرحلة تنفيذ العملية، بينما فى نهاية الفيلم حاول "عرفة" تحسين الصورة قليلا، بمساهمة الصحفى فى إنقاذ أحد الجنود من الموت أثناء الاشتباك مع القوات الإسرائيلية.
 
تلك الصورة السلبية لشخصية الصحفى أعادتنى إلى المقارنة من جديد مع كلاسيكيات أفلام أكتوبر، وتلك المرة مع واحد من أجمل الأفلام التى استعرضت النكسة وما بعدها، فيلم "العمر لحظة" للفنانة ماجدة الصباحى، قصة يوسف السباعى وإخراج محمد راضى، والفرق شاسع بين شخصية الصحفى فى العملين، بين الصحفية التى تسعى جاهدة للسفر إلى الجبهة ومعايشة يوميات الجنود، وصحفى فاشل قادته الصدفة إلى الجبهة. أعتقد أن إخفاق "الفيلم"  فى تقديم دور الصحفى كمراسل حربى، رغم أهميته الكبيرة، كان جزءا من إخفاقهم فى بث الروح للجانب الإنسانى بشكل عام فى الفيلم. 
 
على الجانب الآخر من القناة، قدم الفنان الأردنى إياد نصار دور الضابط الإسرائيلى، فكان الممثل الوحيد لحضور العدو فى العمل، ولكن تمكّنه أغنى عن تواجد أية أدوار أخرى، حتى أننى حسدت الجانب الإسرائيلى على تواجد "إياد" فى صفوفه، فكعادته أتقن الدور، وقدم الشخصية الإسرائيلية المُخادعة والقادرة على التلون. ما أدهشنى بعد مشاهدة الفيلم، تصريح إياد نصار فى إحدى القنوات الفضائية، وقوله: "أنزعج من تعاطف البعض مع شخصية الضابط الإسرائيلى"، وبعد مشاهدة الفيلم لا أدرى من أين جاء هذا الانطباع لـ"إياد"، صحيح أنه أتقن الدور، لكنّ إتقانه أورث المشاهد – أو على الأقل بالنسبة لى - كراهية عميقة للشخصية. ضابط إسرائيلى يقتل الأسرى المصريين بدم بارد، مَن فينا يُمكن أن يتعاطف معه؟
 
فى صالة العرض، صفق الجمهور وعلت الضحكات، عندما انهال أحد الجنود على الضابط الإسرائيلى (إياد نصار) بالضرب، فمن أين يأتى التعاطف مع شخصية يرى الوجدان الشعبى المصرى أنها العدو، رغم كل محاولات إعادة صياغة تلك العلاقة على كل المستويات. تصفيق الجمهور بعد تدمير المعسكر الإسرائيلى، ويعد نجاح فريق العملية فى العودة سالمين لغرب القناة، ثم بعد انتهاء الفيلم، كلها أدلة على أن القناعة الشعبية بعداء إسرائيل لم تتزحزح، رغم مرور 46 سنة على انتصار أكتوبر.
 
فى العادة يتركز اهتمامى مع الفيلم كُلّية أثناء المشاهدة، لا أُلقى بالاً بزملاء المشاهدة فى قاعة العرض، إلا أن دخول مراهقين إلى الفيلم لفت انتباهى، رغم وجود أفلام تجارية تمتلك خلطة الإثارة فى دار العرض نفسها، فربما شجعهم الطابع الحربى للفيلم، والدعاية الجيدة له، على المشاهدة!.
 
لفت انتباهى أيضا استهجان بعض الجمهور لسخرية موظف السنترال من الضابط بعد الهزيمة. وتصفيق المشاهدين للمجند "محمد فراج" بعد نجاحه فى اقتناص الضابط الإسرائيلى أثناء هروبه بالسيارة، وهو ما يجعل الحديث عن انفصال الشباب عن تاريخنا وهمًا يروجه صناع السينما؛ للتنصل من مسئوليتهم تجاه حق المجتمع فى تقديم أعمال فنية متنوعة، وعدم إغفال جزء مهم من تاريخنا الوطنى. بالطبع عامل التكلفة مهم، لكن إقبال الجمهور على العرض، خاصة الشباب، أمر محمود، وإن كان إيقاع الفيلم البطىء، والميل إلى الخطابة فى نصفه الأول، جعلا القاعة تضج بأحاديث جانبية أحيانا، بينما اختفت تماما تلك الأحاديث فى النصف الثانى، حيث الإيقاع المتسارع وإجادة تقديم الاشتباكات.
 
تصفيق الجمهور فى نهاية الفيلم، بعد نجاح العملية، دليل آخر على الظلم الذى يحصر رغبات المشاهد فى الأفلام التجارية الخفيفة، أو حتى أفلام "الأكشن" الخالية من المضمون، بحجة أن "الجمهور عايز كدة"، فالمشاهد يُقبل على العمل الفنى المتكامل، الجيد، بقدر إقباله على الأفلام التجارية.
 
"الممر" بشكل عام تجربة تستحق المشاهدة، ويستحق أن يحرص الآباء على اصطحاب أبنائهم؛ ليروا عملا فنيا متقنا فى مجمله، يستعرض جزءا مهما من تاريخنا الحديث.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة