علاء عبد الهادى

هوية مصر.. البصرية

الأربعاء، 01 أغسطس 2018 12:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 قبل عامين دعيت من قبل وزارة الثقافة لزيارة فرنسا، ولأسباب قدرية كان هناك خطأ فى توصيل تفاصيل الدعوة لى من قبل موظفة العلاقات الثقافية الخارجية، اكتشفت هذا الخطأ عندما «وقعت الفاس فى الراس»، ووصلت بالفعل إلى مطار شارل ديجول فى باريس، حيث عرفت أن الزيارة التى قالت لى الموظفة إنها لمدينة بالقرب من باريس، هى لمدينة تحتاج إلى سفر 10 ساعات، أكرر عشر ساعات فى الأتوبيس أو 6 بالقطار، إضافة إلى ساعتين أخريين فى أتوبيس ينقلنا إلى المدينة التى يقام فيها المهرجان. 
 
«اسُبلتيه».. هكذا ينطقون اسمها، إحدى قرى الجنوب الفرنسى، لا يبعدها عن الحدود الإسبانية إلا عدة كيلومترات.. قرية صغيرة تعداد سكانها لا يتجاوز الـ 2000 نسمة، قرية متميزة بشىء بسيط جدًا، لكنه جعلها قرية متميزة ، لها مكان على الخريطة السياحية الفرنسية، هذا الشىء هو زراعتها للشطة الحمراء، التى أصبحت شعارها، موجودة مجففة على أوجه البيوت الفرنسية، وعلى واجهات موتيلات وفنادق المنطقة، يصنعون منها هدايا تذكارية وتيشيرتات، كل شىء عليه علامة «قرن الشطة» التى تجعل من يراه يتذكر على الفور «اسُبلتيه»، حتى الشيكولاتة التى تصنع فى معامل خاصة، صنعوها بالشطة، نعم شيكولاتة بالشطة، ويحتاج الأمر منك إلى الانتظار طويلًا حتى يأتى عليك الدور وتشترى!
 
تذكرت هذا الأمر وأنا أتابع بانبهار مشروع «خلق هوية بصرية لمصر»، عرضته الشابتان ياسمين سليمان وغادة والى فى المؤتمر الوطنى للشباب بجامعة القاهرة أمام الرئيس عبدالفتاح السيسى.
 
حتى الآن لا توجد هوية بصرية حقيقية لمصر، أو لإحدى محافظاتها، رغم الغنى والثراء والتنوع الذى تتمتع به مصر، فى البشر، وفى الإرث الحضارى المتنوع والممتد عبر آلاف السنين، لا يوجد شىء، وإذا وجد فهو للأسف عشوائى سلبى، يربط مصر دائمًا بأشياء سلبية، غير حقيقية، يحدث هذا فى وقت نجحت فيه دول أخرى فى خلق صورة ذهنية، أو هوية بصرية عنها، بمجرد أن تراها تعرف أنها هذا البلد، هو شىء أشبه بالبصمة التى تصنعها لكى تلتصق بهذا البلد، وتصبح جزءًا من هويته، أتذكر مثلًا كيف نجحوا فى ربط برلين برأس نفرتيتى، فما أن تراها تتذكرها، ولا تتذكر الموطن الذى خرجت منه مسروقة متخفية على يد مكتشفها بورخارت.. خد عندك أيضًا مدريد، حيث الدُب وشجرة الفراولة هما الهوية، ما أن تراهما حتى تتذكر مدريد وقصة الكفاح فى أتليتيكو.
 
قبل سنوات حدثنى فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق، عن أحلامه التى تكاد تنطبق حرفيًا على هذا الأمر، وقال لى إنه يريد أن تكون لكل محافظة من محافظات مصر بصمة تجعلها متفردة، ومختلفة عن المحافظات الأخرى، وقال لى إن محافظة مثل أسوان ليس من المعقول ولا المقبول أن يكون طرز البناء فيها وألوان المبانى هو نفسها التى تبنى فى الإسكندرية أو إحدى مدن القناة، أو حتى فى محافظة الوادى الجديد، هذا التنوع لابد أن ينعكس على لون المبانى، وتخطيط الشوارع، وحتى لون الأرصفة، وقال لى ساعتها إنه يمكن أن يكون اللون الطوبى الأحمر هو الأنسب للأقصر، لثرائها اللامحدود بالنسبة للآثار، وأراد أن يترجم أحلامه إلى واقع، وقاتل لكى يخرج جهاز التنسيق الحضارى للنور، ولكنه ولد مبتسرًا، مقزمًا، منزوع الدسم، دوره استشارى، ولكن فى زمن السيسى الأمر يختلف، إذا سمع لفكرة مفيدة، فإنه يقرر التنفيذ ما دامت تصب فى مصلحة البلد، لا يفرق معه عقبات أو صعوبات، يهوى التصدى لها.. فى نفس الجلسة، وجه تعليماته لوزير الدفاع، الفريق أول محمد زكى، ببدء الإجراءات لتبنى مشروع الشابتين المصريتين، لإطلاق مبادرة لتصميم «براند مصر».
 
ببساطة وبدون «كلكعة» هذا المشروع يهدف إلى خلق شىء مجرد، عندما تراه أو يراه السائح يتذكر الجميل الذى فى مصر، هذا علم أساسه الابتكار والإرادة، وكلاهما متوفران فى ياسمين وغادة اللتين انتزعتا تقدير وتشجيع وإعجاب 3 آلاف شاب ومسؤول حضروا المؤتمر الوطنى للشباب فى جامعة القاهرة.. الهوية البصرية تهدف إلى خلق ما يمكن أن نسميه علامة تجارية أو «براند» لمصر، إذا رأيته تتذكر مصر، حتى نمحى الصور النمطية السلبة التى ربطت مصر مثلًا بالجمل، إلى الحد الذى يعتقد فيه بعض السياح أن المصريين يذهبون إلى أعمالهم على ظهر جمل!
 
مشروع الهوية البصرية لن يبدأ من فراغ، بل إن الجامعة الألمانية بقيادة العبقرى أشرف منصور، رئيس مجلس أمنائها، رعى تطبيق المبادرة على أرض الواقع فى الأقصر لأسباب كثيرة، حيث درسوا على أرض الواقع كل العشوائية، وخرجوا بتصور واحد وهوية قابلة للتطبيق، وأصبح كل حرف من حروف مدينة الأقصر باللغة الإنجليزية يعنى شيئًا مثيرًا لدى السائح، وله معنى جميل يستطيع أن يختزنه فى الذاكرة، وينقله لغيره، حرف الـ «x» مثلًا يعنى التقاء البرين الغربى والشرقى، الحياة والموت عند الفراعنة، كذلك حرف «R» الذى يعنى عين حورس وهكذا.
 
خلق هوية بصرية لمصر ولكل محافظة على حدة يعنى سياحة بجد، نشطة وعفية وممتدة، يعنى اقتصادًا، وتشغيل أيدٍ عاملة، ويعنى إعادة إحياء لمئات من الحرف التراثية التى تصارع من أجل البقاء، وهذا كله يعنى المزيد من فرص العمل، يعنى المزيد مما يمكن أن نسميه السلام والاستقرار الاجتماعى، والأهم من هذا وذاك أن تخلق لدى شبابنا نوعًا من الانتماء والعزة والافتخار ببلده، وبما تحتوى من كنوز ليست فقط فى الآثار، أو فى التراث، ولكن فى البشر، يعنى أنها تستعيد من جديد روح الشخصية المصرية التى خرجت من نصف قرن ولم تعد!









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة