سهيلة فوزى

الراعى الصغير.. ومعالى الوزير

السبت، 06 أكتوبر 2018 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كوفية حمراء صاخبة اعتادت أن تمضى الشتاء دوما ملازمة له، تلتف حول رقبته بإحكام، كان يأمل أن تقيه نزلات البرد المتكررة، لكنها فشلت على مدار سنوات فى حمايته، ومع ذلك ظل متمسكا بها، فأصبحت جزءا أصيلا من حضوره المبهج فى مدرستنا.

 

اعتدنا الاستماع إليه يحكى لنا عن تجاربه ومواقف مر بها. كنا نشعر بالسعادة ما أن يبدأ حديثه خارج المنهج الدراسى، فنحلق معه بعيدا عن أسوار المدرسة، وكأننا تحولنا من تلاميذ له إلى أصدقاء يحكى لنا عن حياته، حتى عندما يحكى لنا قصة من قصص الأطفال الساذجة، كان يحولها إلى عالم أكثر صخبا وإثارة بأدائه الدرامى العجيب كنا نخضع لعالمه ونستمع إليه مبهورين برحلتنا معه بعيدا عن الوزارة وكتبها وواجباتها المملة.

قرر يومها أن ينحى درسا عن النباتات جانبا، ويحكى لنا قصة راعى الغنم الصغير، بعد أن كشف كذبة أحد زملائنا، وكثيرا ما فعل ذلك، كان ماهرا فى كشف كذباتنا الساذجة، حتى أيقنا بسببه أن الكذب حقا "مالوش رجلين".

"فى يوم من الأيام كان فيه طفل صغير يخرج كل صباح يرعى أغنامه، ولأنه كان وحيدا فكر فى خدعة يلفت بها الأنظار إليه، فراح يصرخ مستغيثا: النّجدة! النجدة! الذئب! الذئب! وعندما سمع أهل القرية صراخه خرجوا مسرعين لنجدته.. وما أن وصلوا إليه حتى اكتشفوا كذبه، وأنها مجرد خدعة من الصغير يتسلى بها، ثم كرر الراعى لعبته فى اليوم التالى، وصدقه أهل القرية وخرجوا لنجدته، وفى يوم هاجمت الذئاب أغنامه، فصرخ الراعى الصغير: النجدة! النجدة! الذّئاب تفترس أغنامى! لكن هذه المرّة، لم يصدقه أهل القرية لأنه اعتاد الكذب عليهم فلم يخرجوا لنجدته، فالتهمت الذئاب أغنامه".
 

انتهت الحكاية.. وفى كل مرة يتساءل ماذا فهمنا؟  تبارينا فى شرح معنى الحكاية، وقال البعض إنهم سمعوا حكاية مشابهة من جدتهم. ولكنها كانت المرة الأولى التى أسمع فيها حكاية الراعى، ربما لأن حكايات جدتى كانت تختلف عن حكايات الجدات المعتادة قليلا، فمعظم حكاياتها التى طالما استمعت إليها صيفا بمندرة بيت العائلة. كانت حكايات من نوع آخر يدور أغلبها عن العفاريت وأرواح القتلى التى تعبث بالأحياء فى ليالى غاب فيها القمر. أرانب تتجول فى الحقول ليلا، أو سمك يفيض على جانبى ترعة يغرى من يراه كى ينزل لينال حظه من الصيد الوفير. أرواح هائمة على كل شكل ولون تتربص بالأحياء.
 

تعلمت فى المدارس الحكومية المجانية حتى تخرجت فى الجامعة، ولكنى أدركت اليوم أننى نلت قدرا كبيرا من الرفاهية، نعم كما قرأتها عزيزى القارئ "رفاهية" كنت أنعم برفاهية عندما أتيح لى ما لم يعد متوفرا اليوم للكثيرين. كان لدى معلم. فى التسعينات كنا نمتلك تلك الرفاهية أما اليوم فى 2018 أصبح توافر المعلمين بالمدارس حلم صعب إدراكه.

 

يتحدث كثيرا الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم، عن تطوير المنظومة، ورفع كفاءة التعليم، صحيح أنه نجح فى إيقاف مهزلة تسريب امتحانات الثانوية العامة، ولكنه لم ينجح فى إصلاح الوضع المأساوى للثانوية حتى الآن. افتتح المدارس اليابانية فى محاولة لتوفير فرصة تعليم حكومى جيدة لمن يستطيع تحمل تكلفتها بالطبع.
 

مع بداية الأسبوع الأول من الدراسة حكت لى صديقة عن مدرسة ابنتها الحكومية التجريبية بالعبور التى تعانى نقصا حادا من المدرسين، حتى أن إدارة المدرسة لجأت إلى أولياء الأمور تحثهم على التبرع بالتدريس لأبنائهم فى المدرسة لسد عجز المدرسين، بينما تعانى مدرسة تجريبية أخرى بحى المقطم من غياب كل ما له علاقة بالعملية التعليمية من نظام، وانضباط ومدرسين فى مقابل عدد لا نهائى من شكاوى أولياء الأمور. إذا كان هذا هو الوضع فى المدارس التجريبية التى تصل مصروفات الطالب بها إلى ألف جنيه، فما حال المدارس الحكومية العادية التى لا تتخطى مصروفاتها ربما المائة جنيه؟!


فى أبريل الماضى قرر وزير التربية والتعليم إلغاء المدارس التجريبية وتحويلها إلى مدارس حكومية عادية، ثم تراجع عن القرار مؤقتا. ولا أفهم، لماذا يصر الوزير على محاربة التعليم التجريبى بدلا من دعمه؟ بدلا من تطوير المدارس الحكومية العادية، ورفع كفاءتها كى تتحول إلى النظام التجريبى، علما بأن المدارس التجريبية تعد أفضل خيار متاح لأصحاب الدخل الأقل من المتوسط إذا ما قورنت بأسعار المصروفات بالمدارس القومية واليابانية.
 

إذا لصالح من يتم تخريب الملجأ الأخير للأسرة المصرية البسيطة للحصول على مستوى تعليم جيد لأبنائها تحت مظلة التعليم الحكومى؟.. نسيت أن أقول لك عزيزى القارئ أننا فهمنا يومها معنى الحكاية. عرفنا إن إصرار الراعى الصغير على الكذب كان السبب فى خسارته كل أغنامه.
 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة