حمدى رزق

راهب الوطن

الثلاثاء، 28 يوليو 2009 08:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من وجهه تطل ملامح الإنسان المصرى التى سجلها العلماء فى كتبهم القديمة، نقية جلية، بشرته بلون طمى النيل، وعيناه تعكسان نظرة حانية حكيمة، تكوينه ككل صعيدى الروح والدم.. من حكمة الصعايدة وصلابتهم وقوتهم وحنوهم- فى آن واحد- جاء البابا "شنودة الثالث"، الذى تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والخمسون لرهبنته.

ليست ذكرى رهبنة البابا ذكرى خاصة، ولا هى بمناسبة مسيحية أرثوذكسية بحتة، هذا جزء من قصة كبيرة ترتبط باسم هذا الرجل، والرجل يرتبط اسمه بالوطن، هو جزء من نسيجه.. ومن تكوينه النفسى، قال ذات مرة عن مصر إنه "وطن يسكن فى قلبه"، وفى قلب كل قبطى.

البابا شنودة عبر عن مصريته هذه بمواقف حولته من زعيم روحى للأقباط إلى شخصية وطنية كبيرة يلتف حولها الجميع، مسلمون ومسيحيون، فمواقفه لا تفرق وإنما توحد، وهو بها يسجل سطورا مضيئة فى سجل الوطنية المصرية، لا فى سجل الكنيسة المصرية وحسب، وهى الكنيسة التى طالما ضربت المثال فى الوطنية على مر تاريخها الطويل.

البابا فى طليعة من رفضوا المتاجرة بالأقباط، على كثرة المتبضعين لتلك السلعة السياسية الفاسدة فى الداخل وفى المهجر، فى عام 1994 وعلى إثر قيام إحدى الجهات البحثية بتنظيم مؤتمر عن الأقليات فى الشرق الأوسط، رفض البابا مشاركة الكنيسة مؤكدا أن الأقباط فى مصر ليسوا أقلية.

رأى البابا شنودة أن قطاعا ليس بصغير من الأقباط تعتريه سلبية سياسية، ويعزف عن ممارسة حقوقه العامة، فحث البابا الأقباط على إتمام واجبهم الوطنى بأن تكون لكل منهم بطاقة انتخابية وأن يحرصوا على الإدلاء بأصواتهم.

ومع كل فتنة يحاول البعض إثارتها، يكون البابا أول من يطفئ الحريق قبل أن يشب، يبعد النافخين فى النار، يرفع صوت التعقل، يضع الوطن فى مقدمة الأفكار التى تتدافع فى العقول شيطانية ملتهبة فى لحظات الاحتقان الدينى، فيتذكر المصريون- المسيحيون- أن وراء الفتنة أيادى تعبث بالوطن، وأن بيت هذا الوطن يتسع للجميع بلا صراعات وهمية.

ولعل أهم المواقف التى اتخذها البابا ويصر عليها إلى يومنا هذا، وهو الموقف الذى اكتسب زخما شعبيا ضخما، موقفه من قضية القدس، إذ كيف يحج المصرى المسيحى إلى بلدة يحتلها الإسرائيليون؟ كيف يدنس جيش الاحتلال أطهر البقاع فيحج إليها المصريون؟، وفى هذا الحج لمن يملك البصيرة اعتراف قاطع بسيادتهم على هذه الأرض.

للبابا شنودة منظومته الفكرية- الوطنية الخالصة التى أسس عليها موقفه هذا، فهو يرى أن الصهيوينة جاءت إلى فلسطين بوعد بلفور وليس بوعد من الله، والكنيسة- على هذا- لا تقبل فلسطين إلا أن تكون دولة مستقلة ذات سيادة تحكم نفسها بنفسها، على حد تعبير أدبيات الكنيسة فى عصر البابا شنودة.

ويستتبع هذا الموقف من البابا موقفه النهائى من قضية القدس إذ يرفض تدويلها كما يرفض التطبيع حتى تتحرر الأراضى المحتلة.

لقد قضى البابا شنودة ما يقرب من ثلاثين عاما على كرسى البابوية، رفض فيها أن يغلق أبواب الكنيسة على نفسه، أو أن يلعب دور رجل الدين الحرفى النصوصى، الذى يعزل ذاته عن متغيرات الحياة، صحيح أن البابا يجد من يعارض مواقفه وآراءه فى صفوف الأقباط، سواء داخل مصر أو خارجها، يختلفون معه غير أن أحدا لا يختلف عليه، ولا يناطح قيمته الوطنية.

قدم البابا شنودة- ولا يزال- مفهوما جديدا للبابوية، فهو ليس الراعى فقط للشعب القبطى فى كنيسته، وإنما هو رجل مصرى مثقف وصاحب موقف ومنهج فكرى، يدافع عنه، وإذا كان البعض يرى أن البابا دوره داخل الكنيسة فقط، وأن البابوية لها قيودها التى تغل يدى البابا عموما وتجعله رجل دين مترفعا فقط، فإن البابا شنودة فكك هذه القيود بالوطنية المصرية، التى عليها أسس مواقفه، وصنع للكنيسة القبطية المصرية دورها المهم والحاسم فى عدد غير قليل من القضايا المصرية والعربية الكبرى.

لقد أكد البابا مرات كثيرة أنه حفظ شيئا من القرآن الكريم، وخدم فترة فى الجيش، واشتغل فترة بالصحافة، ونظم الشعر الجميل.. وهى جميعا تجارب متعددة متنوعة، كفلت له خيالا مختلفا، وأكسبته ثقافة جعلته يستطيع أن يتخذ مواقفه الموزونة بميزان الذهب الحساس، وصـعـبـت الـمـهـمـة عـلـى خصومه فى الرأى، فهم لا يواجهون رجل دين عظيما فقط، بل يكونون فى مواجهة طرح وطنى ناضج وحكيم، ليس من السهل اختراقه أو التماس الثغرات فيه.

إذن، فــإن رهبنة الـبـابـا شـنـودة الـثـالــث قــبـل 55 عــامــا، كـانــت موعدا مهما فـــى دفــتــر هــــذا الـوطن، فمن تلك المحطة الــتــى تخلص فيها مــن دنيويته، وأعيد ميلاده من جديد، وسلك مسلكه نحو كرسى البابوية، كان للوطن موعده مــع رجــل مـــن طــراز فريد، جهزته الأقدار مــنـــذ هـــذه اللحظة البعيدة فى الزمن، ليقوم بدوره الوطنى القدير بعد ذلك.

* نقلا عن المصور








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة